نحن نعيش في دولة القانون.. حاشاكم
إن السوريين الذين عاشوا في جمهورية الخوف الكابوسية التي أسسها الجنرال حافظ الأسد وأورثها لابنه بشار أصبحوا ينزعجون من الأدبيات الصحفية التي تتحدث عن الزعيم الجنوب أفريفي نيلسون مانديلا بوصفه صاحب الرقم القياسي لأطول فترة سجن في العالم (27 سنة)، وصاحب الأضواء الإعلامية التي لم يحظَ بمثلها أيُّ سجين آخر في العالم.
ذلك أن العشرات من السوريين المجهولين أمضوا فترات أقل أو أكثر بقليل من فترة سجن مانديلا.. مع الإشارة إلى أن سجن مانديلا، إذا اجتمع مع كل السجون السياسية في العالم لا تعدو أن يكون (ألعاب أولاد) إذا ما قورنت بسجون أمن الدولة في عهد الديكتاتورية الأسدية!
حدثني (مانديلا السراقبي) المدعو أبو مدين الذي حبسه (الأسدان) سبعاً وعشرين سنة بتهمة (البعث اليميني العفن) عن ناشط سياسي سوري كان عضواً في حزب العمل، اسمه (ف- م) قال لرئيس محكمة أمن الدولة، أثناء مثوله أمامه: أنتم عصابة!
فأمر بإعدامه، ونفذ الحكم، في الحال، شنقاً، وبحضور بقية المتهمين الذين لم يمثلوا أمام المحكمة بعد.
وكانت جلسات "محكمة أمن الدولة" تعقد في مكان سري، أو في أماكن سرية متحركة، بقصد التمويه. ذلك أن معظم الروايات التي سمعناها- لاحقاً- من الرجال الذين اعتقلوا، في الثمانينيات، بتهمة التعاطف مع الإخوان المسلمين، تقول إن: (رجال الأمن عصبوا أعيننا، وأصعدونا إلى حافة سارت بنا لعدة ساعات، ثم فتحنا أعيننا لنجد أنفسنا في قاعة كبيرة، ننتظر أن يأتينا الدور لنُعْرَضَ على قاضي محكمة أمن الدولة).
وكانت أطول محاكمة لأي معتقل لا تستمر أكثر من دقيقة ونصف، أو دقيقتين ونصف في الحد الأعلى، فمساعد القاضي يفتح إضبارة المتهم الماثل أمام القاضي، ويقرأ المفردات الخاصة به، مثلما هي مدونة في هويته، ويسأله:
- صحيح؟
فيرد المتهم: صحيح.
ويدفع بالإضبارة أمام القاضي فيقول له، مثلاً:
- تهمتك، يا فلان، نقل رسالة من المجرم فلان الفلاني في حلب، إلى المجرم علان العلاني في القرية الفلانية.. ماذا تقول؟
فيرد المتهم: نعم سيدي. حصل.
فيقول القاضي: حكمت عليك المحكمة بالسجن عشر سنوات.
فيردد المتهم: يحيا العدل!
فيسحبه عنصران خارج القاعة، تمهيداً لنقله مع زملائه إلى سجن تدمر، وينادي الصياح على من عليه الدور بعده.
أحد المعتقلين، وهو محام، يَعْرفُ أن القضاة (العاديين) لا يكترثون للاعترافات التي تُنْتَزَعُ من المعتقلين في أقسام الشرطة الجنائية، تحت التعذيب، وأنَّ من حقه أن يُنكر ما نُسب إليه أمام القاضي، ويُعاد استجوابُه..
حينما قال له القاضي:
- تهمتُك، يا فلان، هي توزيع مؤن وأموال على أهالي المعتقلين.. ماذا تقول؟
أجاب: هذا الكلام لا أساس له من الصحة سيدي.. وأنا اعترفتُ بذلك تحت التعذيب.
فنظر القاضي إلى الضابط المُنْدَب إلى المحكمة من قبل شعبة الأمن العسكري نظرة ذات مغزى.. وعلى الفور سُحب المتهم من المكان، وأعيد إلى الفرع الذي أتى منه، وهناك اضطروا إلى إماتته تحت التعذيب!
وعلى إثر هذه الحادثة التي تسرب خبرها إلى داخل السجن، أصبح كل واحد من المعتقلين يوصي زميله بعدم (الأخذ والرد) مـع قاضي أمن الدولة، ويجب عليه، حينما يسمع بالحكم، أن يهتف، بلا تردد: يحيا العدل.
ويضيف الناصحُ قائلاً لمنصوحه: فإن فعلتَ غير ذلك كان مصيرُك كمصير ذلك المحامي الذي أحب أن يتفذلك، ويتفيقه بمعرفته بالقانون،.. وكأننا نعيش في (بلاد القانون) حاشاك!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية