في زحمة الموت السوري، حيث فقدت الكلمات معانيها، وتحجرت الدموع في العيون، وماتت قلوب البشر، واختلطت معايير الخير والشر، بعث لي أحدهم رسالة قصيرة ينتقد فيها كتاباتي العاطفية التي تفتقد إلى الموضوعية وعلم الإحصاء والبحث. كتبت، ليس رداً للتهمة، وإنما لتأكيدها.
***
صديقي، السوري رجل حالم، فهو من البشر الذين يعشقون القضايا الخاسرة، يفتش عنها ليل نهار، وعندما يجدها يندفع إليها بحماس الأطفال، في اللحظة التي ينفضّ عنها البشر. لا تخطر بباله حسابات الربح والخسارة. فقط تأسره، تستحوذ عليه ومضة حق تكاد أن تُطمر تحت نفايات هذا العالم الخرافي، فينبري للدفاع عنها. ميزان العدل والحق عنده ليس لحظة البربرية المعاصرة التي تسود العالم، إنه ميزان الإنسانية الذي بُني قطرة قطرة، وكلمة كلمة، وومضة ومضة، عبر عشرات الآلاف من سنوات بربرية البشر.
صديقي يرقص طرباً داخلياً عندما تلتقط أذناه كلمة حق، ويُصاب بإحباط مميت عندما يكتشف أن كلمة الحق هذه، سكّين أُريد بها نحر أناس أو مجموعة من البشر، فيلملم قطرات دمه المبعثرة بين أقدام الخنازير وسياط الألسن وينقّيها من شوائب الكلمات والحروف السامة ليعيدها إلى أصلها، وينام متعباً على وسادة منسوجة من أحلام الاطفال الوردية.
وصديقي رجل صادق، صادق في حبه لوطنه في أوقات المحن والسعادة، في السرّاء والضرّاء، ينقد سلبياته التي يعرفها جيداً، لا بهدف التدمير والشماتة، وإنما بهدف بلوغ أعلى درجات الانسجام بين تلوينات عناصر تكوينه، التي تبدو للسائح أو المغرض نشازاً، بينما هو يراها كأوتار آلة العود، كل وتر يُطلق النغم الخاص به، والجميع معا يعطون اللحن المبدع، المتناسق، المنسجم، الذي يُطرب الآذان ويُرقص الجسد ويغني الروح. أو كلوحة الفسيفساء المكوّنة من ألوان مختلفة وأحجار متنوعة الأحجام والقياسات، ولكنها في مجملها العام تكوّن لوحة فذة في تناغمها.
وهو صادق في حبه للآخرين، لا يشوب حبه مصلحة مادية، آنية أو استراتيجية، إلا إذا اعتبرنا حاجته للإنسان نوعاً من المصلحة. هو يفكر في الآخرين ومشاعرهم قبل أن يفكر في ذاته. يبرر لهم أخطاءهم الصغيرة وهفواتهم، ويراها من طبيعة البشر، بينما يلاحق نفسه ويحاكمها ويلومها على أتفه الزلات.
هو صادق في حبه للأصالة، أكانت هذه الأصالة خارجة من بين أصابع فلاحة لم ترَ من العالم غير بيتها وبقراتها، أو بادية للعيان في سلوك موظف أو معلم أو قاضٍ أو سياسي أو صنائعي أو فنان. إنه مولع بالأصالة، لا أصالة الثروة والحسب والنسب، وإنما أصالة الخلق والإبداع والفكر والعمل وتطابقها مع الممارسة اليومية.
وصديقي عاطفي، يثور ويغلي كالمرجل، لساناً وجسداً، عندما يسمع رجلاً يكذب بصفاقة ووقاحة، مدعياً الطهارة، وهو غاطس في مستنقع القاذورات، مستغبياً الآخرين، وهو ملك الأغبياء، لا يتركه إلا وقد جرّده وعرّاه من كل أقنعته. وأكثر ما يحتقر رجلاً يصنع من ذاته حذاء للآخرين، ينتعلونه جديداً، ويرمونه في القمامة مهترئاً تبول عليه الكلاب.
صديقي السوري، أيها السادة، متهم من أكثر من طرف وجهة بارتكاب جريمة الانتماء إلى حزب السوريين العاطفيين المحظور، الباحثين عن الحرية، وقد أقر بتهمته، واعترف بالجرائم المنسوبة إليه. وعلى الرغم من إصراره على الاستمرار في اقتراف الجرائم المشار إليها سابقاً، ورغبته العلنية في الثبات على مبائه، على الرغم من كل ذلك، أطلب تخفبف الحكم عليه لسبب علمي وجيه: إنه ينتمي إلى نوع من البشر، يحاول نظام الأسدين، منذ أكثر من عامين، إفناءه.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية