أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

هل فكرت بالمستقبل يا أحمد؟

في مطلع ١٩٨٩ كنت ضيفاً على مدرسة الأمريكان في طرابس، ليس كمدرس أو كصحفي ولا كناشر، وإنما كسجين سياسي، تم نقله من فرع فلسطين في دمشق إلى مملكة غازي كنعان في عنجر، ومن ثم تم إرسالي إلى طرابلس، حيث مقر فرع المخابرات العسكرية السورية وسجنه المؤقت. استدعاني في اليوم التالي لوصولي رئيس قسم الحقيق وأنا مطمش العينين مربوط اليدين خلف الظهر، وطلب مني بصوت هادىء الاجابة على أسئلته، مما شجعني على الطلب منه أن يرفع الطماشات عن عيني وفك قيودي إذا أراد الحصول على اجابات مريحة وحقيقية عن أسئلته. كان لكلامي وقع حسن عند المحقق فطلب من العسكري أن يفعل ما طلبته، ثم قال للعسكري أن يخرج. كان شاباً بحدود الأربعين، جميلاً ورشيقاً وهادئاً دون أن يعني ذلك أنه غير قاتل، كما قال أثناء الحديث. تعارفنا، وعرفت أنه من قرية حصين البحر، حيث الصديقان حيدر حيدر وسعد الله ونوس. وعرف أن هناك مكيدة ضدي مرتبة ما بين بعض تجار الكتاب في دمشق وبين رئيس فرع فلسطين آنذاك مظهر فارس. أمضينا أربع ساعات في مكتبه، تغدينا وطلب لي باكيت دخان من حسابه، وقال لي أنه كان ملحقاً عسكرياً في السفارة السورية في باريس، وأن رئيس الفرع في طرابلس هو حمصي سني، وقد كان مع غازي كنعان منذ أن كان في حمص. في نهاية اليوم عرض علي نص الكتاب المرافق لي والصادر عن رئيس فرع فلسطين، وتركني اقرأه وفيه:

نرسل اليكم الموقوف ميخائيل بن عطية سعد للتحقيق معه بتهمة التعاطف مع حزب القوات اللبنانية وإعادته إلينا بعد تأكيد التهمة المشار إليها.
التوقيع العميد مظهر فارس.

كتب رئيس قسم التحقيق في طرابلس تقريره عن التحقيق معي، نافياً فيه التهمة الموجهة لي، وكان لصالحي بالكامل. وقال لي أنه بناء على ماكتب، يجب أن أعود إلى عنجر ثم إلى دمشق خلال يومين، عندما يعود رئيس الفرع من حمص ويوقع التقرير. قبل أن أخرج من مكتبه طلب من العسكري وضعي في أفضل مكان في القاووش.

مرت الأيام والأسابيع بطيئة بانتظار العودة إلى سوريا، ومما خفف من وطأة القلق أنه في أحد الأيام، فتح الباب ودخل أربعة عساكر لقضاء عقوبتهم المسلكية معنا، لأنه لا يوجد مكان آخر في مدرسة الأمريكان ليكون سجناً خاصاً بعناصر المخابرات. كان الجنود شرسين مع المعتقلين، ويطلبون منهم أن يخدموهم، وكان أستخدام (البوكس) أو الكف مسألة لا تستوقف لا العسكري ولا حتى السجين، فهو سلوك شبه عادي في المجتمع، فكيف ونحن في سجن المخابرات السورية، حتى اللبنانيين والفلسطينيين الذين كانوا معنا في القاووش كانوا قد تأقلموا مع السلوك السوري.

ولما كنا في الزاوية الأكثر نظافة في القاووش، فقد أحتلت عناصر المخابرات الأماكن الأفضل بيننا، ووضعوا بطانياتهم وحاجاتهم فيها، وكان بقربي العسكري أحمد، الذي كان الأشرس بين المجموعة في تعامله مع الموقوفين. كنت أراقبه بشكل خاص، للهجته الحمصية، منتظراً اللحظة المناسبة للاحتكاك به، وجاءت منه، قال: أنت من وين؟ قلت: من حمص. وكانت للكلمة تأثير السحر وكافية لأن يقفز أحمد واقفاً على قدميه وينظر إلي متأملاً، ثم قال: من وين؟ قلت: من بستان الديوان. فاحمر وجهه وقال: من وين؟ قلت من زاوية الغسانية. أنا صاحب مكتبة دار الكتاب، هل تعرف المكتبة؟ صمت طويلاً وتغير لون وجهه ما بين الأحمر والأحمر القاتم، ثم صرخ بأقرب الموقوفين إلينا أن يبتعد ببطانياته عنا.

مر بعض الوقت لم يعد يوجه نظره نحوي. مساءً جلس بقربي فسألته: أنت حمصي، هذا واضح من لهجتك، ولكن من أي حي؟ قال دون أن ينظر في عيني: من باب الدريب. قلت له: يعني نحن جيران. قال: أنا بعرضك ، عندما تخرج من هنا، لا تقل ما شاهدته مني هنا، في الحارة. سألته كم بقي من خدمته الإلزامية، فقال بقي علي ستة أشهر. سألته ماذا كان يعمل في الحياة المدنية قبل الجيش؟ قال: لا شيء، كنت قد تركت المدرسة بعد الابتدائية وعملت في سوق الهال وحداد، وشو ما كان، حتى أتيت إلى العسكرية واختاروني لأكون في المخابرات. قلت له: وبعد إنتهاء العسكرية، ماذا ستفعل؟ قال: أفكر أن أبقى هنا في طرابس، فهنا على الأقل قد أجد عملاً، بالإضافة إلى أنني أحب فتاة طرابلسية. قلت له: ألا تعرف يا أحمد أن أغلب الموقوفين هنا هم طرابلسية؟ قال: أعرف وين المشكلة؟ قلت له: سأسألك، ماذا لو أن أحد الطرابلسية الذين ضربتهم وتضربهم الآن صادفك في الشارع مع زوجتك الطرابلسية، وعرف أنك لم تعد في المخابرات، هل تعتقد أنه سينسى أنك ضربته عندما كان بين يديك؟ وماذا ستكون ردة فعله، عليك وعلى زوجتك؟ وهل تعتقد أن المخابرات السورية ستدافع عنك بعد أن تكون قد أصبحت مدنياً، وهل أنت متأكد أن الصبية التي تحبك، ستبقى على حبك بعد أن تترك المخابرات؟

أصيب أحمد بالخرس وهو يصفن بما قلته، ثم قال: ماذا يجب أن أفعل؟ قلت له بقي أمامك يومان في القاووش وستة أشهر في الخارج، عليك أن تحسن علاقتك بالجميع كي تضمن إحترامهم لك كإنسان.

بعد خروج احمد من القاووش بيومين، جاء إلى النافذة الوحيدة والعالية جداً وصاح على أكثر الموقوفين شباًبا وعضلات قائلا له: ضع الأستاذ ميخائيل على كتفيك وأرفعه إلى النافذة. أقترب وجهه من شبك النافدة وقال: خذ هذه الزجاجة، قلت له: ما هذه الزجاجة؟ قال: نصية عرق، أكيد أنت مشتاق للعرق؟ قلت له: شكراً يا عزيزي أحمد، أنا لست في المكان المناسب لشرب العرق، ثم ماذا لو أن معلمك عرف بقصة العرق ألا يخرب بيتك؟ قال: أي والله يا أستاذ، بس أنا حبيت أن تكون مبسوط، لا تتصور قديش كانت نصيحتك لي مهمة. قلت له: أذهب واستبدل العرق بدخان وسأقبل هديتك...

بعد أيام تم ترحيلي إلى سجن عنجر ومنه إلى سجن بيروت في البوريفاج، إلى إن وقعت حرب عون مع السوريين وهرب إلى السفارة الفرنسية.

بعد أن خرجت من السجن، قال لي أبي أن شاباً لطيفاً أسمه أحمد، من باب الدريب قد مر إلى هنا عدة مرات وسأل عنك، وقال أنه سيعود، لكنه أوصاني أن أقول لك أن كلماتك أنقذته وأنها محفورة في قلبه. سافرت ولم التق أحمد أو أعرف ماذا حدث له، فقد دمر جيش الأسد حمص القديمة كاملة بما فيها حي بستان الديوان وحي باب الدريب.

سألتقي أحمد يوماً ما في حمص المحررة من الكابوس الأسدي.

(177)    هل أعجبتك المقالة (190)

بشير

2013-04-16

المشكلة استاذ سعد انك تعيش اللحظة وانك تقدمها للقاريء دون اي توابل وواضح تماما دقة تتابع الاحداث ولذلك هي واقعية واتمنى قريبا جدا ان تلتقي ليس باحمد فقط بل كل الضباط الذين مررت بهم سواء القتلة او اولاد الحلال وهم بالمكان الذي يستحقونه ووحدهم الاغبياء لم يفهموا عبارة " لودامت لغيرك ماوصلت اليك " ..


محمد الزهراوي

2013-04-18

كتابات الاستاذ سعد تبعث فينا روح الامل لسوريا الحريه و الكرامه . شكرا استاذ سعد و القاء في حمص قريبا.


التعليقات (2)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي