قبل ستة أسابيع على موعد انعقادها، تبدو قمّة دمشق التي تحمل الرقم عشرين في تاريخ القمم العربية، أزمة أكثر منها قمّة، فهي تبدو حقل اختبار تاريخياً لقدرة سورية على تأكيد حضورها العربي من دون أن تتخلّى عن تحالفها الاستراتيجي مع إيران، وتكريس التزاماتها القومية من دون أن تفرّط بعلاقاتها الإقليمية، ومعاندة التوجّهات الأميركية من دون أن تخسر علاقاتها مع معسكر الاعتدال العربي. الترتيب الأبجدي الذي ينقل القمّة دوريّاً كل سنة الى عاصمة عربية، لم يعد يكفي لتأمين انعقاد القمّة في موعدها، ولدى المسؤولين السوريين ارتياب في أن يكون هناك من يعمل على تعطيل المؤتمر المقبل، أو تأجيله، أو عقده في مقر الجامعة، أي في القاهرة، وكثيرة هي المعطيات التي تبرّر مثل هذا الارتياب. والأسابيع الأخيرة حافلة، في الاعلامين السعودي والمصري، بأخبار تقول إن هناك ترتيباً سعودياً ـ مصرياً لحرمان دمشق من استضافة القمّة (٢٩ و٣٠ آذار/ مارس المقبل) أو تأجيل انعقاد المؤتمر على الأقلّ، أو استباق القمّة بعقد قمّة طارئة في شرم الشيخ، بصورة تعفي العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز من أن يقصد دمشق ليسلّم الرئاسة الدورية الى الرئيس بشار الأسد، وفي حال إصرار سورية على عقد المؤتمر في مكانه وزمانه، فقد يكون على الرئيس السوري تسلّم الرئاسة من الأمير سعود الفيصل، أو الموفد الذي تكلّفه المملكة تمثيلها في المؤتمر، الأمر الذي يستسيغه السوريون، ولو أنهم لا يجهرون بذلك. وفي بعض مواقع الاعلام اللبناني المناوئ لدمشق، أن عدداً من الحكومات العربية يربط بين حضور القمّة ومعالجة أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، وخطة الحل التي أقرّها وزراء الخارجية العرب في بنودها الثلاثة (رئيساً وحكومة وانتخابات جديدة)، وهي تبرّر هذا الربط بدور لبنان في إعادة رسم النظام الإقليمي، انطلاقاً من المسار التفاوضي الذي أطلقه مؤتمر آنابوليس في ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، والذي يراهن على تحقيق تقدّم سلمي قبل نهاية ولاية الرئيس الأميركي. وتسجّل هذه المواقع، أن حلفاء دمشق اللبنانيين يربطون بدورهم بين توصيات وزراء الخارجية العرب وجولة الرئيس الأميركي الأخيرة في المنطقة، ويلاحظون أن الانخراط السوري في المرحلة التفاوضية بات وارداً، لكن هذا الاحتمال يضع لبنان في قلب التجاذبات، لأن دمشق تسعى الى استباق التفاوض بتعزيز أوراقهااللبنانية وتحسين مواقعها الإقليمية، وبالتالي ضمان مكاسب أوضح لحلفائها اللبنانيين والفلسطينيين. في السياق نفسه، يقرأ معارضو دمشق الانفتاح الفرنسي على سورية، انطلاقاً من معالجة الوضع في لبنان، وهو انفتاح جاء متناغماً مع التنسيق الفرنسي ـ الأميركي المتزايد في أعقاب قمّة بوش ـ ساركوزي (مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر)، ويلاحظون أن النكسة التي أصابت العلاقة الفرنسية ـ السورية، إثر فشل المساعي الفرنسية في لبنان، مردّها الى ما سمّاه برنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي، «التمادي» السوري في وضع الشروط عشيّة جولة بوش على سبع وساركوزي على خمس دول عربية. ويبدو أن خيبة أمل سورية بعد حضور مؤتمر آنابوليس هي التي استبقت خيبة الأمل الفرنسية من الاتصالات مع دمشق، فأعلن ساركوزي من القاهرة عن تجميد هذه الاتصالات يوم ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) العام ٢٠٠٧، الأمر الذي حفّز الديبلوماسية القطرية التي لعبت دوراً مهمّاً في تأمين استئناف العلاقات بين دمشق وباريس، نظراً الى صداقة المسؤولين القطريين مع الطرفين، الى استفسار الجانب الفرنسي عن مبرّرات هذا الموقف، والسعي الى إعادة إقناعه بالحوار، وكان الرد الفرنسي أن باريس تتحرّك في لبنان وسورية معاً، وهي تتطلّع الى انتخاب رئيس للبنان بدعم سوري، وقد توصّلت الى اقتناع خلاصته أن هذا الدعم لم يتأمّن بعد، فعمدت الى مراجعة مواقفها. هذه «الخيبة» الفرنسية هي التي دفعت في وقت لاحق الى البحث عن صيغة تحرّك جديدة بالتنسيق بين الولايات المتحدة وفرنسا ودول الرباعية العربية (مصر، السعودية، الأردن، الإمارات) والأمين العام للأمم المتحدة. في الوقت نفسه، كان هناك قرار بإعطاء التحرّك الفرنسي فرصة إضافية، والتفويض الى وزراء الخارجية العرب العودة الى التحرّك إذا فشل الفرنسيون مرة أخرى، وكل ذلك في سياق الاعداد للمرحلة المقبلة من مؤتمر آنابوليس. والذين تابعوا ترابط الجهود العربية والإقليمية والدولية لدفع المسار التفاوضي الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ربطوا بين هذه الجهود ومعالجة أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، الأمر الذي حوّل لبنان الى مجرّد ورقة تفاوضية. وخشية أن يزداد الوضع اللبناني تعقيداً، وتتشابك خيوط الأزمة بصورة يصعب تعريبها، تمّت اتصالات بين الرياض والقاهرة القصد منها لفت نظر دمشق الى أن إبقاء الوضع معلّقاً حتى انعقاد القمّة، يمكن أن يؤثّر في هذا الانعقاد سلباً بطبيعة الحال، وبما يعني أن التمثيل السعودي والمصري في القمّة قد لا يكون مرضياً إذا استمر الفراغ الرئاسي في لبنان. وهنا تلاقى الموقف المصري ـ السعودي مع الموقف الفرنسي، مرة أخرى، وعلى هذا الأساس أعلنت باريس دعمها الصريح للمبادرة العربية الجديدة التي تمثّلت برحلة الأمين العام للجامعة عمرو موسى الى بيروت في الأسبوع الفائت. هذا في الموضوع اللبناني، إلا أن لبنان ليس العقبة الوحيدة أمام انعقاد القمّة في دمشق، ذلك أن المحور السعودي ـ المصري يريد أن تتعاون دمشق في تحقيق المصالحة الجديدة بين «فتح» و«حماس»، والعودة الى مفاعيل اتفاق مكة للخروج من الوضع الحالي الذي يضعف الجانب الفلسطيني في التفاوض مع إسرائيل. وتردّد أن المسؤولين السعوديين أبلغوا الى من يعنيهم الأمر، أن القيادة السعودية لن تشارك في القمّة إلا على أساس هذين المطلبين، وإلا «فلينقلوا القمّة الى حيث يريدون أو فلتعقد بمن حضر...». وتردد هنا أن الرياض تدخّلت لدى طهران، في شخص وزير خارجية عمان يوسف بن علوي، من أجل تسهيل المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية، وتشكيل حكومة جديدة في لبنان بعدما يتأمّن انتخاب الرئيس. ولم يعد سرّاً أن العوامل التي تساهم في توتير العلاقات السورية ـ السعودية أكبر من تلك التي تساعد على تهدئتها وانتظامها في دورة تواصل وتعاون، وفي رأس هذه العوامل العلاقات السورية ـ الإيرانية، وطبيعة التعاطي السعودي مع المعارضة السـورية (عبد الحليم خدام وعلي صدر الدين البيانوني بصورة خاصة)، والمضاعفات التي نجمت عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والحملات الاعلامية المتبادلة على خلفية هذا الاغتيال، هذا إذا لم نأخذ في الاعتبار طبيعة التحالفات العربية في هذه المرحلة وطبيعة التحالفات السورية، وهي متباعدة جداً إن لم نقل متناقضة. وفي زحمة هذه الخلافات، قد لا يكون مناسباً الكلام على عملية تنفيذ مقرّرات قمّة الرياض (٢٠٠٧) التي اتخذت مواقف تتصل بالأمن القومي العربي، والانتشار النووي في المنطقة، والقمّة الاقتصادية ـ الاجتماعية العربية، وغيرها مما يتعلق بالنقاط العربية الساخنة. ويلاحظ المراقبون أن التحوّلات التي طرأت على المشهد الجيوسياسي العربي كانت أكثر من كبيرة في السنوات الست الأخيرة، أي في أعقاب انعقاد قمّة بيروت. فالمثلّث السوري ـ السعودي ـ المصري الذي كان دائماً يشكّل قاطرة النظام العربي، والذي كان دائماً قادراً على انتشال الموقف العربي من المأزق الذي يواجهه، لم يعد قائماً، والدور الذي لعبه هذا المثلّث في التصدّي للخطط والمؤامرات التي تستهدف الأمن العربي منذ خمسينيات القرن الفائت (حلف بغداد في العام ١٩٥٥) لم يعد قائماً. فقد نقلت المتغيّرات الإقليمية والدولية بعض أطراف هذا المثلّث من موقع الى موقع آخر، فذهب هذا البعض الى التصدّي، فيما انخرط البعض الآخر عملياً في المهادنة، ولم يعد الهرم قائماً بأضلاعه الثلاثة، وبات الجمود العنوان الأهم في الموقف العربي خلال ربع القرن الأخير. وفي اقتناع المراقبين أن القاهرة تدرك تماماً هذه التحوّلات، وأن الرياض تتصرّف على أساس أن عودة المحور الثلاثي الفاعل لم تعد ممكنة، وأن القرار العربي ككل بات عرضة لتأثيرات قوى خارجية نافذة لم تكن قادرة في السابق على اختراقه بهذا الشكل. في غضون ذلك، يعطي التحالف السوري ـ الإيراني، يوماً بعد يوم، الدليل على أنه قادر على الصمود نتيجة التوافق العميق في مصالح البلدين الاستراتيجية، فالطرفان مستهدفان من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، وتحالفهما يقيهما عنف الهجمات والتهديدات المتواصلة، منذ إصدار «قانون محاسبة سورية وتحرير لبنان»، وصولاً الى البحث عن أفضل العقوبات في مواجهة إيران. ومن الواضح جداً أن إعادة اللحمة الى العلاقات السورية ـ السعودية ليست واردة على المدى القريب، وأن مرحلة التواصل والتنسيق أحياناً التي استمرت أكثر من خمس وثلاثين سنة قد ولّت الى غير رجعة، لتفسح في المجال لبرودة وخلافات خفيّة تتراكم، علماً أن فترة الخمس والثلاثين سنة هذه التي امتدت حتى العام ٢٠٠٥، حفلت بالتعاون بين دمشق والرياض في مرحلة عاصفة من تاريخ المنطقة، بدأت بزيارة الرئيس أنور السادات الى القدس المحتلة، ومرّت بالثورة الإيرانية، والحرب العراقية ـ الإيرانية، والغزو الإسرائيلي للبنان، واحتلال بيروت، والاجتياح العراقي للكويت، وحرب تحرير الكويت، وبعد ذلك بدء مرحلة ما سمّي بـ«السلام» وانهيار الاتحاد السوفياتي، واتفاقيات السلام العربية ـ الإسرائيلية خصوصاً اتفاق أوسلو. اليوم يتم التحضير لانعقاد القمّة في أجواء أقلّ حدّة من هذه الأزمات الكبرى، ويتعذّر التفاهم السوري ـ السعودي على برنامج عمل يخرج لبنان من أزمته، والغريب أن التواصل السعودي ـ الإيراني يبدو في متناول اليد، فيما التواصل السوري ـ السعودي بعيد المنال. في الوقت نفسه، تنظر كل من القاهرة ودمشق الى القمّة العشرين من زاويتين متناقضتين، وتدرج مصادر الخارجية المصرية المشادّة الصامتة القائمة في سياق مجموعة معطيات هي الآتية: ـ إن القاهرة ترى أن المعادلة ليست في التئام الملوك والرؤساء أو عدم التئامهم، وإنما في نجاح القمّة أو فشلها. وفي ظل الخلاف السعودي ـ المصري يحتمل أن تلجأ دول عربية أخرى، كالأردن والإمارات والبحرين والكويت، الى مقاطعة القمّة، الأمر الذي يكرّس الانقسام العربي. ـ إن دمشق التي رسّخت تعاونها مع طهران في المرحلة الأخيرة، تحتاج الى غطاء عربي واسع لمواقفها، من أجل تمكينها من العودة الى التفاوض لاسترجاع أراضيها المحتلة، وبعضهم يقول إنها تحتاج الى فك عزلتها العربية، رغم أن هذه العزلة ليست واقعاً معيوشاً. ـ ترى القاهرة أن حلّ الأزمة اللبنانية يشكّل مدخلاً الى إعادة تطبيع العلاقات السعودية ـ السورية، وأن هذا الحل يساعد على تعطيل القنابل الموقوتة في الساحة اللبنانية التي تعيش فراغاً قابلاً للانفجار. ـ إن إطلاق الحل اللبناني من خلال المبادرة العربية لا يفضي الى قمّة ناجحة في دمشق فحسب، بل الى تجنيب لبنان تدويل مشكلته الحالية، وفي معلومات الخارجية المصرية أن التدويل، إذا حصل، لن يقتصر على موقع الرئاسة، وإنما سيشمل الملف اللبناني بكامله، ويشكّل تكراراً لتجربة القرار ١٥٥٩، وكذلك القرارات اللاحقة المتمثّلة بتشكيل المحكمة الدولية، الأمر الذي يترك نتائج خطرة تحاول القاهرة تفاديها. على النقيض من ذلك، ترى دمشق أن القمّة دورية وليست استثنائية، وهي مؤسّسة دائمة وقائمة في حدّ ذاتها، وأن الانعقاد إجراء روتيني لا استثنائي، في ضوء القرار الذي اتخذته قمّة عمان في ٢٨ آذار (مارس) العام ٢٠٠١، وكان أول تطبيق له في بيروت في ٢٨ آذار (مارس) العام ٢٠٠٢، ثم توالت صيغة المداورة فكانت قمّة شرم الشيخ العام ٢٠٠٣ وتونس في العام ٢٠٠٤ والجزائر في العام ٢٠٠٥ والخرطوم في العام ٢٠٠٦ والرياض في العام ٢٠٠٧. القمّة إذاً يفترض أن تعقد في مكانها وموعدها، وبمن حضر إذا اقتضى الأمر. وترفض دمشق بالتالي أي بحث في نقل القمّة الى شرم الشيخ، وقد وجّهت دعواتها للحضور على أساس أنها مصرّة على استضافتها. في الوقت نفسه، تفصل سورية بين القمّة التي تعتبرها شأناً عربياً، والعلاقات الثنائية، أي الخلافات العربية ـ العربية، وهي تجد في القمّة كمؤسّسة مكاناً لمناقشة هذه الخلافات وإيجاد الحلول الملائمة لها، وترى أنه ليس من الطبيعي تعطيل القمّة من أجل دفع هذه الخلافات الى مراحل أكثر تعقيداً. في الوقت نفسه، تستعين دمشق بقمّة تونس في العام ٢٠٠٤ من أجل تأكيد حقّها في رئاسة قمّتها المقبلة، بعدما أصبحت قمّة تونس عرفاً. ومعروف أنها انعقدت بعد شهرين من تأجيلها، ولم يجر تسلّم وتسليم بين الرئيس زين العابدين بن علي ورئيسها السابق ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، الذي تغيّب، فكان أن صعد بن علي الى المنصّة، وأعلن نفسه رئيساً للقمّة من دون تسلّم وتسليم، رافضاً أن يتسلّم ممن هو دون مرتبة ملك أو رئيس. وتلاحظ مصادر ديبلوماسية في القاهرة أن الملك عبد الله، منذ تولّى العرش، لم يحضر إلا قمّة الرياض التي انعقدت على أرض المملكة، ومنها أطلق مبادرة للسلام بعد تغيّب عن قمّتي الجزائر والخرطوم. أما مشاركته في القمم الأخرى، من عمان الى بيروت الى شرم الشيخ الى تونس، فكانت بصفته وليّاً للعهد. تعقد أو لا تعقد وعلى أي مستوى، هذا هو السؤال، وفي السؤال أزمة ليس ما يدل على أن تجاوزها سيكون سهلاً.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية