تتوقف سيارة "مراد" "السوزوكي" القادمة من سفيرة في ريف حلب إلى مدينة اللاذقية حيث أقاربه على حاجز قبيل دخول المدينة، وتتغير الوجوه الملتحية فيه كل يوم ولا تتغير الصورة التي تغلف الحاجز، وعندما يمسك أحد أفراد الحاجز المسمى "بو جعفر" هوية مراد لا يلتفت إلى الاسم والصورة وإنما إلى مكان التولد والخانة ليدرك أنه "مندس" وهي الصفة التي يطلقها عناصر الحاجز على النازحين بغض النظر عن تكوينهم الإيديولوجي أو آرائهم السياسية، وعندها تبدأ مسيرة الانتقام اللفظي أو الحركي إما بتوجيه التهم أو السخرية أو التفتيش والمصادرة المعلنة لأدوات شخصية أو قد تصل إلى الضرب والقتل، حيث سجلت عدة حالات قتل على الحواجز، إلا أن مراد استطاع تجاوز الحاجز بعد أن ردد عدداً من شعارات عناصره وما إن دخل المدينة ووصل إلى أقربائه حتى بدأت مسيرة البحث عن مأوى مستقل وعمل يحفظ ماء وجهه... البحث الذي لم ينسَ خلاله النازح ركام المنزل والعمل والذكريات التي تركها في بلدته.
التهمة مندس
يضطر النازح في المنطقة الساحلية لتطبيق تعاليم الازدواجية في المعاملة وحفظ اللسان في محاورة الغير "خوفاً من تكرار تهمة الاندساس" التي قد تكلفه هنا أكبر مما كلفته في منطقته، هذه الازدواجية التي سيلاحظ النازح بعد فترة أنها من طبائع الكثيرين من سكان الساحل بحكم وقوعهم في محيط تتشكل أغلبيته من مؤيدي النظام السياسي القائم.
تضم مدينتا اللاذقية وطرطوس وريفهما حوالي أربعمئة ألف نازح من محافظات ادلب وحلب وحمص ولا تختلف أوضاع النازحين في المنطقة الساحلية عن أوضاعهم في بقية الأراضي السورية الهادئة إلى حد ما، حيث يصعب تأمين المسكن والإمدادات اللوجستية والغذائية، ويبقى الشعور بالأمان خارج مناطق الصراع منقوصاً بحكم أنهم غرباء عن المنطقة، تلك الغربة التي تقلل من حدتها إسهامات الأهالي والمجتمع المحلي "غير المنتمي للنظام" بتقديم ما يمكن لبعض النازحين، خاصة في ظروف الضائقة المادية وعدم وصول الإمدادات من الخارج وعدم قدرة الهلال الأحمر على تحمل جميع الأعباء إضافة إلى سرقة الكثير من الموارد المخصصة للنازحين من قبل أتباع النظام وسواهم ممن لا مشكلة لديه في طبيعة مصادر الكسب المادي.
فرصة أمل
يحترف بعض النازحين مهناً تختلف عن أعمالهم في مناطقهم فهنا لا يهتم الباحث عن أية فرصة عمل بطبيعة ونموذج العمل المتاح، فنجد من يعمل في البناء أو الحفريات أو المحلات التجارية وورشات الصيانة وغيرها وبأجور منخفضة لا يتجاوز بعضها 300 ليرة يومياً .... المبلغ الذي لا يكفي لإطعام الفرد نفسه دون عائلته في اليوم الواحد، بينما يتساوى النازح مع سكان المنطقة في معاناة الحصول على موارد الطاقة والتدفئة، فعندما يقف النازح خلف صهريج المازوت يشعر بالمساواة مع سكان اللاذقية وطرطوس.
وعند اندلاع أية مشكلة في المنطقة الساحلية سواء كانت على مستوى ضيق أو متسع ستلتفت الأنظار فوراً إلى النازحين وتتوجه أصابع الاتهام إلى شبابهم مضافين إلى قائمة المعارضين في المنطقة، مع العلم أن النازح أول ما يخسره في منطقة النزوح هو قدرته على ممارسة النشاط السياسي أو الميداني بغض النظر عن توجهه السياسي وذلك بسبب الاهتمام الكامل بتأمين المعيشة بعد فقدان كل موارد الحياة.
الجواب"الله يفرج"
تشكر سعاد وأمينة ومرح الفتيات اللواتي اعتدن الوقوف أمام شاطئ اللاذقية سكان المدينة على الاهتمام بقضية النازحين وبينما تترد الفتيات بالرد عن الاستفسارات التي تخص أسباب النزوح ويكتفين بالقول "الله يفرج" تلك الجملة التي يقولها كل من غادر بلدته لعدم وجود دلائل سياسية تختفي خلفها ولأنها لا تحمل طبيعة فكرية ما وإنما هي مجرد جملة تقال لرمي الظروف في كف القدر والاتكال على الله سبحانه وتعالى... هي هروب مبرَّر من طرح الرأي تخفي خلفها أوجاعا ومرارة.
لكل نازح رواية حسب قول "أبو العبد.. نازح من مدينة سلقين" تلك الرواية التي من الصعب أن تتكشف في مرحلة يقودها رصاص مبدع في حرق الروايات وتشويهها، إلا أنها -لا بد- قصص إنسانية تركت خلفها نازحاً يحاول البحث عن مكان دافئ يروي فيه روايته... نازح لم تعترف السلطة الرسمية حتى الآن بوجوده وقضيته، إذ لم تقدم تقريراً واضحاً يبين أعداد النازحين وتوزعهم بين المحافظات وإمكانية تلك المحافظات على تحمل الضغط السكاني المتوافد يومياً إليها، لتبقى قضية النازح رهينة بين مجتمعات محلية غير قادرة على تحمل العبء الكامل وحواجز ولجان شعبية قادرة على إغلاق صفحة أي نازح بضغطة زناد.
بكر هلال - اللاذقية - زمان الوصل - خاص
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية