أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

هشام علوان.. المجنون والرائي والواقعي والرمزي

يقدم الكاتب المصري هشام علوان في روايته "دفاتر قديمة" عملا هو مزيج من الواقعي والرمزي المرسوم بدقة فيسرد بدفء في قسم من الكتاب ويجعل القصة تخدم الفكرة في القسم الاخير منه.

عند هشام علوان يتحول المجنون الى رمز. انه الرائي الذي يستبق الاخرين الى المعرفة وهو يشبه الى حد ما صورة البهلول او المجذوب الذي يحمل في داخله نعمة خفية.

تتناول الرواية في ما تتناوله موضوعا ليس جديدا لا في احداثه ولا في تصويره الفني الا وهو موضوع التعذيب في السجون وإذلال السجين وكسره وصولا الى حد الاغتصاب الجنسي او التلويح به.

وردت الرواية في 158 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن مكتبة الدار العربية للكتاب في القاهرة.

تبدأ الرواية مع مسؤول كبير يتصل هاتفيا بالضابط الشاب الرائد اكثم سعفان ويقول له محذرا "المجانين في ساحة التحرير" في اشارة الى تحركات انتفاضة 25 يناير كانون الثاني.

ويرد الرائد قائلا "اطمئن يا باشا الوضع تحت السيطرة." ويطلب المسؤول الكبير ملف زعيم المجانين ثم يقول "تنظيم سري من المجاذيب والمجانين والتمويل غالبا من الخارج." فيطمئنه الضابط قائلا "كل حركة وكل نفس مسجلة لدينا."

وأخرج الملف ونظر الى صورة زعيم تنظيم المجانين "شيء ما جعله يستشعر ألفة معه كأنه يعرفه "حين تأمل الصورة تقافزت في ذهنه وجوه شتى: هل يتشابه المجانين؟" كانت ملامح الزعيم وقسماته تشبه نجيب سرور "بعيونه الواسعة وملامحه الوسيمة.. نفس نظرة التحدي وابتسامة السخر المرسومة على الشفتين."

ونجيب سرور كما يشرح المؤلف شاعر ومسرحي مصري معاصر كتب قصائد هجائية في قالب الرباعيات "سجل فيها ما رآه قلبا للاحوال وسيادة النفاق وتحكم التافهين بشروط معيشة وإبداع الموهوبين بلغة تعد فاحشة وإباحية." اصيب بإحباط نفسي وعقلي.

كانوا قد اوكلوا إليه مهمة مراقبة نجيب سرور لانه يحب القراءة ويكتب الشعر ولذا "فستكون اكثر شخص يتفهم طبيعة ذلك المجنون الخطير." دهش وتساءل كيف عرفوا انه شاعر وهو لا يكتب الا سرا.

نعود الى ملف "زعيم تنظيم المجانين". يعيدنا ذلك الى طفولة ذلك الشخص الذي بدا كأنه خلق متمردا يكره الظلم وإنسانا محبا للاخرين. يروي الكاتب بسرد مؤثر مغامرات ذلك الصبي الصغير برعاية مريم التي كانت اكبر منه سنا وكانت تقيم في منزل عائلته التي حضنتها.

كانت مريم ترعاه وتسهر على راحته وفي الليالي تخرج معه في مغامرات منها قطف بعض ثمار من حديقة شخص جبار هو جار لهم. كان ذلك يجري بدافع المتعة. في ليلة من الليالي ألقى الحارس الاخرس القبض على مريم بعد ان استطاعت ابعاد الصبي شهاب. قتل الحارس البنت. وسأل الصبي عنها مرارا فكانوا يتسترون على الامر الى ان اكتشف الحقيقية. لم ينس مريم طوال حياته وأحدث موتها نقمة في نفسه.

وبعد زمن احب زهرة بنت سلطان وأحبته لكن خيبته ازدادت عندما اكتشف ان والدها أجبرها على الزواج من ابن العمدة البليد المعروف عنه غباؤه. واشتدت نقمة هذا الشاب على كل مظاهر الظلم والاستغلال.

لم يكن شهاب حزبيا مع ان اصدقاءه كانوا من مختلف الجماعات السياسية. وعمل مذيعا في الاذاعة. كانت مهمته تفرض عليه حيادية تكاد تجعله غير موجود.

كان يكتب الى الراحلة مريم شاكيا لها. يقول "مريم.. هل تعرفين ماذا كان شعوري وأنا اسجل مع ذلك الانفتاحي الكبير وأمارس كل طقوس النفاق المهني الموسومة بكلمات سخيفة من عينة: "سيادتك".. "حضرتك".. وأبتسم لنكاته السمجة اذ يقول: انا من انصار التطبيع.. بصراحة رأس المال لا وطن له ولا دين. مريم ماذا افعل وانا المحايد؟

"مريم.. لا استطيع ان اعتصم في نقابة الصحفيين او اتحاد الكتاب ضد البربرية الهمجية الامريكية وما تفعله في شعب العراق... مريم انا الموظف الميري.. عبد الحكومة!"

ويقول لها "سأكون أليفا جدا.. لدرجة انني لن اهش تلك الناموسة التي وقفت على ساعدي تمد خرطومها وتمص دمائي في نهم.. لن اصرخ متوجعا.. لن ادافع عن نفسي ضد اي شيء.. يا كلاب العالم وذئابه.. لكم جسدي ولي الموت. مريم الكائن الثوري.. المتمرد صار أليفا داجنا وحبيسا في حظيرة كبيرة اسمها: الحياة."

والواقع ان تطور شخصية شهاب مما كانت عليه الى ان وصلت الى هذه الحال لم يكن واضحا ولا مقنعا تماما. كان الامر بحاجة الى مزيد من النضج. الحاصل ان شهاب واخرين احتجزوا في مستشفيات للامراض العصبية بإشراف قوى الامن وبعمل سري منها. كانوا متهمين بأنهم يدعون الجنون وانهم تلقوا على ذلك تدريبات وتمويلا من قوى خارجية وتعلموا اشارات سرية يخاطب بها بعضهم بعضا.

كان الضابط كما يبدو بوضوح متعاطفا مع شهاب وأمثاله لكنه اعجز من ان يظهر ذلك. وتتالت الاخباريات عن انشطة شهاب واتصالات له مع اخرين وعن ضيوفه في المنزل وفي برامجه الاذاعية حتى جاء يوم السادس من ابريل نيسان 2008 واندلعت احداث المحلة الكبرى. وفي فجر ذلك اليوم توجهت قوة من المباحث وألقت القبض عليه.

وبعد تفاصيل كثيرة عن التعذيب والانتهاكات اخلي سبيل شهاب بعد ان لم يجدوا شيئا يدينه. لكن لما نشبت الثورة كان شهاب والمجانين الاخرين في الطليعة الى درجة لم يعد الرائد يدري ما اذا كانوا مجانين فعلا ام انهم اذكياء استطاعوا ان يخدعوه.

وقال عنهم الرائد "كانوا يتحركون في مجموعات باتجاهات مختلفة... لم اكن اتوقع وجود شهاب على رأس المظاهرة... حين اقتربت كثيرا من تشكيل امني كان شهاب ينظر الي مباشرة وابتسم وهو يرفع في وجهي اصبعي السبابة والوسطى" علامة النصر.

اضاف الضابط المتعاطف مع المجانين "قاومت رغبة ملحة في خلع ملابسي والجري عريانا على الكورنيش .. ابتسمت وأنا افك بقية الازرار وشعرت براحة كبيرة عندما لفح الهواء البارد صدري العاري وصوت الحشود يتردد صداه داخلي: حرية.. حرية."

رويترز
(88)    هل أعجبتك المقالة (97)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي