جريمته أنه لم يقف باستعداد لأحمد جبريل... فدائي فلسطيني في سجون النظام منذ عام 1985

ترك جنين وعائلته الفقيرة، قاصداً الالتحاق بالفدائيين في لبنان، معتمداً في رحلته على صديق طفولته ؛ أحمد جبريل، دون أن يتوقع بأن عدم وقوفه باستعداد عند دخول صديقه جبريل إلى المكتب سيكون سبباً بالاعتقال لما يزيد عن 27 عاماً.

ولد بشار علي صالح في جنين بفلسطين، من عائلة منعه فقرها من إتمام دراسته، وأجبره على العمل منذ أن كان عمره 13 عاماً، إلا أن حلم تحرير فلسطين ظل يلاحقه، وفي عام 1985، ترك الأراضي الفلسطيني بهدف الالتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان.

ووفق ما روى بشار صالح للمعتقل السابق ومصدر "زمان الوصل" د.س، توقفت رحلته وحياته لحظة وصوله إلى سوريا.. يقول د.س ساخراً: لأن طريق المقاومة يمر من دمشق، نزل صالح في الشام، وبحكم أن والدة بشار، ربت أحمد جبريل عندما كان صغيراً في فلسطين، قصد صالح صديقه القديم جبريل ليلحقه بالمقاومة في لبنان.

يشير د.س إلى أن صالح كان يغص بدموعه وهو يخبر تفاصيل اعتقاله، التي بدأت لحظة وصوله إلى مقر جبهة التحرير الشعبية لرؤية أحمد جبريل، فبينما كان صالح ينتظر جبريل، دخل الأخير بصحبة حراسه الشخصيين، ولأن علاقة قديمة تربط صالح بجبريل، لم يقف صالح باستعداد عند دخول جبريل، ولذلك تابع الأخير سيره إلى المكتب دون أن يسلّم عليه، وبدأ الحراس بمساءلة صالح عند سبب عدم وقوفه للـ "المعلم".

ويتابع د.س نقلاً عن صالح: اندهش صالح من برودة استقبال جبريل، وأخبر الحرس بأنه وجبريل تربيا في نفس المنزل!!.. إلا أن أحمد جبريل وفق رواية صالح رفض لقاءه، و أخضعه لتحقيق من قبل الجبهة الشعبية للقيادة. وبعد أن فتشوا أشياءه وجدوا بحوزته وثيقة سفر إسرائيلية، ومن المعروف أنها كانت ُتفرض على الفلسطينيين ليتمكنوا من السفر، إلا أنهم في القيادة العامة اعتقلوا صالح لمدة ثلاثة أيام، ثم رحلوه إلى الأمن العسكري.

في الأمن العسكري اُتهم بالعمل الجاسوسي لصالح إسرائيل، ولكن صالح رفض الاعتراف رغم التعذيب الشديد الذي تعرض له، وبقي سنة في الأمن العسكري، ومن ثم نُقل إلى سجن تدمر.

فدائي في تدمر عوضاً عن إسرائيل

يحكي المعتقل بشار صالح أنه كاد يفقد حياته في يوم استقباله في سجن تدمر بسبب ما تلقاه من ضربٍ وتعذيبٍ، ألقوا به بعد الاستقبال في منفردة صادف وجود معتقل فلسطيني آخر فيها اسمه وليد بركات-سبق أن تحدثنا عن قصته-.

ومازال بشار مديناً بحياته لبركات الذي طبّبه وداواه قدر الإمكان، بقيا في المنفردة منذ عام 1986 حتى 1995، ليتم تخريجهما منها مصادفة، بعد أن "نُسيا" وفق تعبير المساعد، الذي أجاب عن تساؤل مدير سجن تدمر عن سبب طول مدة إقامة هذين المعتقلين في المنفردة.

عند خروج بشار إلى المهجع قرر أن يصبح فدائياً.. ويعرّف د.س الفدائي في تدمر بأنه شاب يتطوع بجلب الطعام من باب المهجع إلى داخله، ذلك لأن هذه العملية التي تُنجز خلال ثلاث دقائق قد يموت خلالها المعتقل، بسبب الضرب الشديد الذي يحاصره به سجانوه الواقفون أمام قدر الطعام، كما أنه بالتأكيد سيحرق يديه كونه يُجبر على سكب الطعام الساخن بيديه، حتى ولو كان حساءً مغلياً.

ويبيّن د.س أن المعتقلين ينظمون دوراً لجلب الطعام، والفدائيين يتطوعون عن غيرهم لجلب الطعام خاصة عندما يأتي الدور على أحد كبار السن أو المرضى، أو يتبرع الفدائي بتلقي العذاب عندما يُعاقب شيخ، حيث كان يسقط كثير من الشهداء جرّاء التعذيب.

يشير د.س إلى أن إصرار بشار صالح على افتداء زملائه المعتقلين، سبب له الكثير من الأمراض، أهمها الإعاقة العصبية التي صار يشكو منها، بعد أن ضُرب بكبل الدبابة ( وهو كبل كاو تشوك مقصوص من طبنور دبابة، ومدعم بشبك حديد) ضُرب به على رأسه من الخلف.. وبحسب د.س تشتهر بين المساجين، قصة بشار، عندما ضُرب على رأسه حتى أُغمى عليه، فاستدعى السجانون، المسئول الصحي، وسألوه : فطس ولا لسا؟!.. فأخبرهم بأنه مازال حياً فتركوه..ويتابع د.س موضحاً أنه بعد هذه الحادثة صار بشار يعاني من حالة عصبية تعيقه تركيزه، وتشتته فكرياً.

المحزن في قصة بشار بحسب د.س، أن حالته العصبية، صارت تتطور مع الأيام، إذ تضاعفت ساعات شروده وهذيانه، كما أنه صار يعاني من صعوبة في الكلام، وعلى الرغم من هذه الإصابة بقي بشار فدائياً، فجميع المساجين الذين عاشوا معه في تدمر، لا يستطيعون نسيان شهامته، فهو كان مستعداً لأن يموت كي يفدي أحدهم... "أولم يخرج من فلسطين ليصبح فدائياً" يتساءل د.س.

نُقل مساجين تدمر إلى سجن صيدنايا في العام 2000، وعندما تعرف د.س على بشار، في سجن صيدنايا كان قد مضى على اعتقاله 22 عاماً، ويحكي د.س أنه على الرغم من كل تلك السنين التي أمضاها صالح صابراً على أوجاعه الجسدية والعصبية، فإنه كان يرفض الاستراحة، و يبحث دائماً عن أي عمل يساعد به زملاءه، متجاهلاً حالته العصبية التي تأتيه فجأةً لتغتال ابتسامته.

وكان صالح يحكي عن نفسه لـ د.س بقوله: عندما اُعتقلت كان عمري 21 عاماً، واليوم 48 عاماً، إلا أن روحي مازالت تحتفظ بحيوية بشار الشاب، وكأن الزمن توقف لحظة اعتقالي.

يشعر د.س برغبة بالبكاء، كلما تذكر القصة التي يرويها معتقلو صيدنايا عن بشار، عندما دخل إلى السجن الشهير، فشاهد حينها التلفزيون للمرة الأولى في حياته، ولذلك اندهش وبقي متسمراً أمام الشاشة حوالي أسبوع، وبدأ يعاني بعدها من حالة نفسية موجعة، فقد صار يحادث مذيعات التلفزيون، وكأنه يشاهدهن في الحقيقة، حتى أنه وقع في عشق إحداهن، وأخبر المساجين أنها زوجته، وكان كلما شاهدها على التلفزيون يقبل الشاشة ويعانقها..و يصعب على د.س، توصيف مشاعر الحزن التي كانت تعتري المساجين، كلما سمعوا بشار، يبوح لحبيبته الافتراضية بهمومه وأشواقه، ويوضح د.س أن بشار يهجم ويضرب كل من يحكي عن حبيبته المذيعة، أو يأخذ الأمر على محمل السخرية، إلا أنه يعود بعد دقائق للضحك مع الجميع حتى من سخر منه.

ربطت بين د.س وبشار علاقة قوية، لأن د.س صار يسهر مع بشار، ويستمع لقصصه المُتخيلة عن زوجته، المذيعة.. يقول د.س: لم أكن أقوى على إيقاظه من أحلامه خوفاً على مشاعره.

ويشرح د.س لـ"زمان الوصل" كيف رفض بشار تصديق خبر زواج المذيعة، على الرغم من أنه كان يسمع بأذنه مباركات زملائها لها بالزواج على الهواء، وفي إحدى المرات غابت المذيعة فترة طويلة عن الشاشة فعانى بشار من اكتئاب. ويتابع د.س: بعد مرور عدة أيام، دعى بشار زملاء المهجع لشرب الكولا على حسابه، لأن زوجته حامل، وعندما سألته كيف عرف بأمر حملها؟ قال بأنها ظهرت اليوم على التلفزيون في البرنامج الصباحي، فباركت لها زميلتها لأنها حامل.. ومنذ تلك اللحظة سمّى بشار نفسه "أبو سعيد"!!

يقول د.س، من المحزن أن إنساناً بشهامة وطيبة قلب بشار، يتحول إلى مريض نفسي بسبب اعتقاله وتعذيبه الوحشي على ذنب لم يرتكبه، و يحز في قلب د.س، أن بشار يتلهف لمساعدة الجميع، في حين أن لا أحد يستطيع مساعدته.

في إحدى المرات حاول د.س توعيته، لأنه لم يعد يحتمل خداعه، فأخبره أنه يحب وهماً، وأن المذيعة ليست زوجته، فأجابه: بل هي ملكي، ألا يكفي أنني لم اتكلم أو أحب أنثى في حياتي كلها، هل استكثرتم علي أني وجدت الحب الحقيقي؟

ومن القصص الموجعة أنه عندما خرج د.س من سجن صيدنايا في 2011، و نُقل بشار إلى سجن عدرا، اتصل به ليبارك له بالحرية، وطلب منه رقم تلفون المذيعة.. يقول د.س: ارتبكت ولم أعرف ماذا أجيبه، وفي الحقيقة ما أردت جرح قلبه، فقلت إن شاء الله خلال يومين اتصل بك وأعطيك الرقم.. فكر د.س أكثر من مرة أن يطلب من إحدى صديقاته التكلم مع بشار على أنها المذيعة التي يهواها، إلا أنه تراجع عن ذلك، خوفاً من أن يسبب له مزيداً من الأذى.

تعكس قصة بشار صالح حسب د.س، الدور المقاوم والممانع، الذي يقوم به النظام السوري، فصالح كان يريد أن يصبح فدائياً في جنوب لبنان، فجعله النظام فدائياً في سجن تدمر، وحتى اليوم يلقبه الجميع بالفدائي، وهو مازال إلى الآن بلا محاكمة.

ويشير د.س في حديثه لـ"زمان الوصل" أن بشار تلقى أول زيارة في عام 2005، حيث كانت والدته تأتي من فلسطين لتزوره، وكان يبكي كثيراً كلما رآها، وأنه كان يهوى الأعمال اليدوية الفنية، كالخرز وصناعة المسابح من نواة الزيتون، وغزل الخيطان من أكياس الخبز، لصنع الشبكات، إضافة للعب الشطرنج.