أحدهم يعتمد على "ترموميتر" خاص، يقيس "حرارة" الأجواء ومعدلات "الضغط" الدولي. هو مقتنع بأن في ذلك سرّ مهنته، مع أنه لا يعمل في الأرصاد الجوية! بالنسبة لزميل له، تسير المهنة والمخاوف على السكة نفسها، لذلك يتعذر عليه النوم بعد جملة، أو كلمة، تستدعي "امتعاض" الجهاز الخلوي وصفيره، وهو ليس ناطقا رسميا أخطأ نقل التصريحات.
الوضع يختلف بالنسبة لزميل آخر يعيش حظوة الصيت الذائع لمؤسسته، لكنه لا يضمن أي شيء إذا "وقعت الواقعة"، طبعا ليس في البورصة. هذه ليست "حزورة"، فزميل أخير يريد الاستمرار دون أن تحكمه "لقمة العيش" ويشكر وسائل الإعلام الأجنبية التي تقدر أنه، وزملاءه، مراسلون لها في سوريا.
هؤلاء المراسلون عينة تمثيلية، ربما، جميعهم سوريون وذلك شرط لوجودهم ممثلين لوسائل إعلام أجنبية. ويستثنى من هذا الشرط الدول الصديقة (الصين، إيران، روسيا..)، باعتبار أن الأصدقاء غالبا ما يحلو لهم الفهم بسرعة.
مدير مكتب (الحياة إل بي سي) في دمشق، إبراهيم حميدي، يعتقد أن أهم ما يحتاج إليه المراسل في سوريا هو "الخبرة السياسية والمهنية" التي ستؤمن له الحماية من أي مشكلة مفاجئة، معتبرا أن فهم الأوضاع السياسية والإقليمية يحدد "المساحة التي يمكن اللعب ضمنها". لكن إذا صدف ووقع الخطأ عندها "لا أحد يحميني!". يتحدث حميدي عن سحب بطاقته الصحافية سبع مرات، ثم تحويله إلى القضاء العسكري وأخيرا جاء سجنه "بناءً على قانون الطوارئ". يقدم حميدي فرضية، تبدو معقولة بالنسبة لوضعه، تقول ان علاقاته الواسعة وتأثير الوسيلة الإعلامية التي يعمل لها يقتضيان "أن يكون الولاء أكبر، والتعاطي مع الأحداث مطابقا للموقف الرسمي إلى حد كبير، خصوصا إذا أخذنا بالاعتبار القانون المغيّب أصلا لمصلحة السياسة، حيث يستخدم كسلاح عندما يراد معاقبة أحد". "لا النقابة ولا الوزارة، ولا حتى الجهة التي يعمل لها المراسل، تستطيع حمايته إذا وقع في مشكلة كبيرة"، هذا ما يقوله مراسل قناة إخبارية عربية، رفض ذكر اسمه لأسباب شخصية ومهنية، معتبرا أن أكثر ما يمكن للقناة تقديمه، والحال كذلك، هو القبول بطريقة معالجته للأمور "تصعيدا أو تهدئة" ليتمكن من تجاوز
"الأزمة"، إضافة إلى الحفاظ عليه في مؤسستها. وعند الحديث عن احتمالات نجاح الوقاية، لن نقول الحجر، يروي المراسل عدم إمكانية منع حصول المشكلة التي "تمر تحت القانون، وهو، حتى لو تدخل، لن يساعد بالضرورة، لأن دوره ثانوي"، مضيفا أن سقف العمل بالنسبة للمراسلين هو "سوريّتهم"، حيث تعتبر مصلحة البلد فوق كل شيء، وهو موافق تماما على ذلك، لكنه يتساءل "هل ستتفق في رؤيتك لهذه المصلحة مع رؤية الجهات الرسمية؟ أم أنك يمكن أن تقدّر الأمور بطريقة مختلفة؟"، ففي حال اختلاف الآراء تكون الكلمة الفصل للجهة الرسمية لأن "الجهة الأقوى هي صاحبة الرأي الأقوى..".
عمل شعبان عبود مراسلا لقناة "الحرة" لمدة شهر، بعد "توقيف" مراسلها السابق عن العمل لعدة أسباب آخرها "تخلي القناة عنه". عبود (وهو مراسل أيضا ل"النهار") لا يعنيه لمن تعود ملكية وسيلة الإعلام التي يعمل لديها، أو تمويلها، وكان حاول خلال عمله لمصلحة القناة "تغطية الأحداث الجارية بصورة متوازنة"، لكن في أحد المؤتمرات أبلغه "وزير الإعلام أمام مجموعة من الزملاء بوجوب التوقف عن العمل مع المحطة، دون توضيح الأسباب". استفسرت "الحرة" عن أسباب "التوقيف" فطلب عبود إعطاء "فرصة لمعالجة الموضوع دون ضجة، او تصريح بأن دمشق أوقفت عمل المحطة". منذ أكثر من ستة أشهر وهو يحاول إيصال "المشكلة" لأكثر من مسؤول لكنهم كانوا "يسمعون ولا يعلّقون على الأسباب، ووصلت إلى مرحلة لم أعد أعرف فيها من هو صاحب القرار، خصوصا أن أياً منهم لم يحسم إن كانت عودة "الحرة" للعمل ممكنة أم لا..". ويعتقد عبود ان أحدا لن يستطيع حماية المراسل في حال وقوع خطأ سياسي كبير "كأن يتحدث عن موقف لا تريد دمشق الإفصاح عنه، حتى لو كان دقيقا، أو ينقل وقائع لا ترغب بتغطيتها" وقد حدث هذا مع "زملاء ودفعوا الضريبة".
مراسل الجزيرة، عبد الحميد توفيق، حاضر في الساحة الإعلامية منذ خمس وعشرين عاما، وكان عمل لمصلحة قناة (إل بي سي) وتلفزيون "العالم"، وهو يفترض أن المعوقات الخاصة بعمل المراسل تتبع الوضع السوري عموما وترتبط بالمسألة السياسية، والمساحة الممنوحة للناس وبالتالي الصحافي، إضافة إلى نظرة السياسي إلى خصوصية المنبر الذي يمثله المراسل "فربما يعطي تصريحات لقناة معينة ولا يمنحها لأخرى وفقا لتقديراته الخاصة ولما يريد تمريره". يبدو توفيق مأخوذا بميثاق الشرف الصحافي الذي وضعته قناة "الجزيرة"، باعتباره يكفل حماية المراسل عند "التزامه قوانين البلد، وحدوده، وعدم الإساءة إلى مصالحه"، لكن في الوقت نفسه يعود ويعلّق أنه إذا "وقعت الواقعة فلا أحد يحمي المراسل، وفي أفضل الاحول تخفف القناة عنه بعض الشيء" مضيفا أن هناك زملاء "ذهبوا ولم "يدر" بهم القانون، وخرجوا ولم "يسمع" عنهم القضاء".
يبدو أثر الرقابة مخيّما على هواجس المراسلين، يتسرب في عبارات وكلمات، بنسب وأشكال مختلفة. فتأخذ عند البعض صيغة "الكليشيه" المعروفة، وتكمن عند آخرين في توقع مضاعفات أي شطط، قد يغري به السبق الصحافي، فيرشح خارج جدران الظروف والضغوط.
تجربة الرسائل الشفهية واللاسلكية
يشرح مدير مكتب (الحياة إل بي سي) عن أرقه "الأمني"، فعندما قال "كلمة معينة" في برنامج "نهاركم سعيد" جاءه "اتصال هاتفي من أحدهم بعد خمس دقائق، وهو أمر يتكرر أحيانا مرتين في الأسبوع، كما جعلتني جملة أفكر مليا في أبعادها وتأويلاتها ولم أستطع النوم ليومين، خصوصا أن من يتصل بك ليس سماناً أو بقالاً..". ويضيف حميدي أن الدولة تعرف جيدا كيف تتصرف بحيث "توحي بإمكانية العمل لوسيلة ما، لتوقفها بالطريقة نفسها". ويلفت في هذا السياق إلى مصالح مالية كبيرة لشركة المعدات التي تخدّم (إل بي سي) في دمشق، وهو ما جعل وكيل الشركة "يرسل التقارير عبر التلفزيون (السوري) الرسمي" أي عبر الرقيب مباشرة، فالقناة لا تملك عربة بث متنقل (إس إن جي).
"الخطوط الحمراء لا تعريف لها. فهي تتوهج وتخفت، وهذا الأمر لا تحدده أي جهة"، كما يشير مراسل فضائية (رفض ذكر اسمه)، معتبرا أن ما يوحي بطبيعة الخطوط الحمراء هو "علاقات المراسل، بما فيها علاقته بمصادره" بحيث يصبح لديه (ترموميتر) خاص "ينبهه إذا كان مناسبا الآن الخوض في مسألة معينة، وهل سيكون ذلك من مصلحة العمل؟"، ويعتقد المراسل بعدم صوابية التفكير، إذا اعتبر أن "المعلومة (السبق) أهم من عمله، لأن إهانة واحدة أحيانا تساوي عشر سنوات عمل"، لا سيما أن انعكاسات ذلك قد تطال القناة أحيانا. ولا يلمّح الى وجود رقابة قبل البث لكن بعد البث "يتصلون (..) سواء أعجبهم ما شاهدوه أم لا. وإذا لم يعجبهم، يحصل نقاش يوضحون فيه الهدف من تسريب المعلومة وأنه لم يتحقق بالطريقة المناسبة"، كما هناك حالة ممانعة تسبق التغطية "فأحيانا لا يسمحون لك بالتصوير، لتسألهم في مرة أخرى إذا كان التصوير ممكنا. ربما يوافقون، وعندها قد تصور و"تمنتج" لكن لا تبث. ويتحول السؤال: إذا صورنا ومنتجنا فهل نستطيع البث؟ ربما يجيبون بالنفي، وتلقائيا بعد ذلك تلغي الفكرة دون أن تسأل".
من جهته يوضح مراسل "الحرة" أنه لم يتعرض لأي رقابة تسبق البث، ولم تطلب أي جهة "الكتابة أو البث وفق طريقة محددة"، لكن بالنسبة له تكمن "الإعاقة" الأساسية في "صعوبة" الحصول على المعلومة، وكثرة المصادر "المطلعة"، رغم أن المصدر يكون "مسؤولا كبيرا لكنه لا يريد الإدلاء بتصريح بصفة رسمية". ويضيف ان توصيف المصدر ب"المطلع" ليس مستخدما في وسائل الإعلام الأجنبية لكن هذه الوسائل تقدّر أن المراسلين "يعملون في سوريا". الا انه يرفض التسليم بنظرية "لقمة العيش" معتبرا أن المهنة هي بمثابة "المشي في حقل ألغام" لافتا إلى "تهديد" قد يلجأ إليه بعض المسؤولين "المتورطين في الفساد" بأنهم سيرفعون قضية تشهير، و"هم يستطيعون رفع آلاف القضايا بكل سهولة، ولن تؤثر تكاليف المحاكم على ملايينهم، لكن الصحافي يبدو أحيانا عاجزا عن دفعها".
بالنسبة لمراسل "الجزيرة" "لا يخضع عمله لأي رقابة"، ويعود ذلك برأيه إلى طبيعة العمل التلفزيوني، فعندما تملك "الصورة لا يستطيع أحد تكذيبك". ويشير توفيق إلى إيراده معلومات، على الهواء، كان "طُلب من الجميع عدم تصديرها، لكن لم يطلب مني أحد ذلك"، وهو لا يعير الرقابة على التغطية (طريقة التصوير ووقته) أهمية كبيرة لأنها "لم تمنع إعطاء الفكرة الصحيحة عن الحدث، وقراءته بشكل واضح".
تملك "الجزيرة" عربة بث متنقلة، وأخرى ثابتة (فلاي أوي) ويمكن التعرض لحديث توفيق عن "المعوقات المتفاوتة" التي تواجه المراسلين، وبأنها تختلف بحسب "وسيلة الإعلام وخصوصيتها، إضافة إلى المراسل..".
من جهة أخرى تشير سمر إزمشلي، مراسلة في مكتب (إل بي سي) إلى مشكلة تتعلق بتحكم "التلفزيون الرسمي بأخبار القصر دون أن يهتم بمسألة الوقت، وهي تهمنا كي نجهز التقرير قبل نشرة الثامنة" وتضيف أن التلفزيون يعطي للمراسلين "مادة مصورة مدتها عشر ثوان، ويجب أن تكفي كامل التقرير!". كما تلفت إلى قضية أخرى مرتبطة بقلة الضيوف السوريين القادرين على التصريح حول الموقف الرسمي، وهو ما يجعل "مراسلي القنوات يصطفون بالدور على باب أحد الضيوف لتتبادل قنواتنا استضافته، في التقارير أو بشكل مباشر على الهواء".
المراسلون مسؤولون عن تدخل بعض الجهات في عملهم؟!
حاول بعض المراسلين تأسيس جمعية لمراسلي وسائل الإعلام الأجنبية في دمشق، ولا يزال المشروع في أدراج وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، بعد أن وافقت عليه وزارة الإعلام منذ حوالى سنة. وقد اعتبر مراسل "الجزيرة" أن الحاجة للجمعية تتأتى من ضرورة إيجاد صيغة خاصة بالمراسلين خارج نطاق القانون السوري، واتحاد الصحافيين، تشبه "منطقة حرة تؤمن آلية صحيحة للعمل وحماية للمراسل". يعتبر مدير مكتب (الحياة إل بي سي) الجمعية مشروعا "حالما وطموحا" لكنها بنيت على "أسس خاطئة من حيث استبعاد مراسلين أساسيين، كما لا يجوز تأسيس جمعية بعقلية العشيرة والشلة" مشيرا إلى أنه لم يسمع بوجود المشروع إلا بعد فترة من طرحه.
وعلى أرضية من التفاؤل بالجمعية، وغيرها، يأمل مراسل "الحرة" أن يأتي وقت يصبح فيه معيار تقييمه منوطا بمؤسسته الإعلامية، مشيرا إلى أنه إذا خالف "التوجيه الشفوي (بعدم العمل مع القناة) أكون أقفلت الباب أمام عودة المحطة، أو ربما في وجه عملي الصحافي ككل". في حين يعتبر المراسل، الذي رفض ذكر اسمه، أن أهم ما يحتاج إليه هو التخلص من "الهاجس الأمني" عبر حماية قانونية تكفلها "تشريعات مطبقة وليست فقط نظرية".
وكان بعض المراسلين أبدوا وجهات نظر إيجابية تتحدث عن فروقات في التعامل، لاحظوها في السنوات الأخيرة، وهي تتعلق بمحاولة وزارة الإعلام تقديم تسهيلات لوجستية في مهمات التصوير، والتغطية أحيانا. لكنهم لفتوا إلى أن هذا التقارب "لا يلبي الطموح" و"غير كاف".
بالمقابل تعتقد وزارة الإعلام أنها تبدي مرونة خاصة في التعامل مع المراسلين، حيث يوضح مدير الإعلام الخارجي الدكتور نزار ميهوب، أنه "بينما يُعتمد المراسلون في سوريا عبر وزارة الإعلام، يحصل الأمر في دول أجنبية عبر وزارة الداخلية أو الخارجية..". وحول هاجس المراسلين في ظل غياب قانون يحميهم، يلفت ميهوب إلى "وجود ضوابط يعاقب على أساسها أي شخص تجاوزها سواء كان صحافيا أو شخصا عاديا" مشيرا إلى أن الوزارة تقترب من إصدار قانون للإعلام "يتلافى الثغرات الموجودة في القانون الحالي".
ويتعرض ميهوب لعدة نقاط، عند الحديث عن الإيقاف "الشفهي" للمراسلين، أبرزها أن الوزارة تسمح للقناة بالعمل بعد "تقديمها طلب ترخيص" ريثما تتم دراسة طلبها، وهو ما "حصل مع "الحرة" حيث "لم يمنح" المراسل اعتمادا ليمثلها في سوريا. يضيف ميهوب أن بعض المراسلين يعملون لأكثر من وسيلة إعلامية، لكنهم معتمدون لوسيلة واحدة وهذه "الإشكالية سببها المراسلون وليست الوزارة"، ويشير إلى عدم وجود ضوابط تمنع ذلك، لكن "لا يجوز، مهنيا، لوسيلة إعلام تحترم نفسها السماح بعمل مراسلها لحساب وسيلة أخرى..".
ويواجه مدير الإعلام الخارجي ملاحظات المراسلين، حول "تدخل جهات أخرى" في عملهم، بأن ذلك من "عمل أيديهم" حيث "يقدمون الولاء لجهات غير وزارة الإعلام، رغم حرص الوزارة على جعل علاقتهم محصورة بها.." مضيفا أن الوزارة لم "تمنع المراسلين أو توجههم عند تغطية أي حدث".
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية