دراسة: التّفجيرات في سورية... هل فتحت مرحلة جديدة؟

                                 

دراسة صادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 

 وحدة تحليل السياسات في المركز | يونيو 2012


 المحتويات
مقدمة 1
أولًا: التّدين الاحتجاجيّ بين التعبير والتنظيم 2
ثانيًا: أنماط العنف المرافقة للثورة السوريّة: 7
1. النمط الاستهدافيّ ( الكفاح المسلح)
2. النمط الجرائميّ ( الطوائفيّ)
3. نمط التفجيرات
ثالثًا: هل فتحت التفجيرات مرحلة جديدة؟ 15
1. المستوى المحلّي
2. المستوى الدّولي
خلاصة 20


 


مقدمة
 يثير تواتر ظاهرة التفجيرات في الآونة الأخيرة أسئلةً عديدةً عن مدى دخول الثّورة السوريّة في مرحلةٍ جديدةٍ تتسم ببروز مؤشرات التّحول من الشكل السلميّ التظاهريّ الاحتجاجيّ إلى الأشكال العنفيّة التي قد يصبح شكل التفجير الانتحاريّ أحد أشكالها أو مرافقا لها؟ فهل هذه الظاهرة مؤشرٌ لمرحلة جديدة تتسم بهيمنة نمط العمليات التفجيريّة على طريقة تنظيم "القاعدة" والتي تذرَّع بها النظام لقمع الحركة الاحتجاجية منذ بداياتها؟ وما علاقتها بظاهرة التسلح الدفاعيّ بوصفها إحدى ظواهر هذه الثّورة؟ وهل تمثل امتدادًا لتلك الظاهرة، أم أنّها ظاهرة جديدة تختلف بنيويًّا عن ظاهرة التسلح، أم أنّها ظاهرة هامشيّة وعابرة في مسار الثورة فحسب، ولا تعدو أن تكون من نوع الإفرازات الفرعيّة المرافقة في تطور الثورة السوريّة؟
بدأت إرهاصات الظاهرة المسلحة تظهر في سورية منذ الشهور الأولى للاحتجاجات، بيد أنّها حملت طابعًا بدائيًّا تقليديًّا يعكس واقع البنى الاجتماعيّة العشائريّة والتقليديّة التي انطلقت منها. وتجسدت هذه الظاهرة في إطار دفاعٍ بسيط عن النفس، يشرعن حاجته الدفاعيّة والحمائيّة بالمعنى الأهليّ. لقد برز هذا الأمر بأشكال متعددة بعد عملية اقتحام الجامع العمري في 23 آذار /  مارس 2011, وما ارتبط بها من الهول الذي أصاب الرأي العام السوري لأن القوات الأمنية لم تتورع عن مهاجمته وخرق حرمته، وهذا ما أدى ببعض الشباب إلى حمل السلاح بهدف رد الاقتحامات الأمنيّة المتكررة، والرد على عمليات الإذلال والانتهاك التي تمارسها قوات النظام -والمليشيات التي أوجدها وأناط بها هذه المهمة- بطريقة ممنهجة.
طغى هذا الشكل من التسلح الدفاعيّ البسيط خلال المرحلة الأولى من عمر الثورة السوريّة على مناطق مختلفة كبعض أحياء حمص، وبعض قرى الغوطة الشرقية في ريف دمشق، وريف حماه وإدلب. وترافق مع بروز انشقاقات عسكرية من الضّباط والمجندين. ولكن مع بداية عام 2012, ظهرت حالات جديدة وطارئة لا علاقة لها بأنماط التسلح السائدة في سورية, تجلت في التفجيرات والسيارات المفخخة الغامضة المصدر، والتي استهدفت عدة مدن سورية، وخاصة دمشق وحلب. وهو الأمر الذي فتح الباب واسعًا لطرح تساؤلات جوهريّة عن مدى تأثيرها في الثورة السوريّة. ولذلك، ستحاول هذه الورقة تلمّس مؤشرات المرحلة الجديدة من خلال استقراء مسار "العسكرة" أو " الكفاح المسلح" في الثورة السوريّة، والمظاهر العنفيّة المرافقة، وانعكاساتها المرحليّة والمستقبليّة سياسيًّا ومجتمعيًّا، وتداعياتها على التحول الديمقراطيّ الذي تتبنّاه الثورة شعارًا وهدفًا مبتغى في ظل النهج القمعيّ -الأمنيّ والعسكريّ- المتبع كمنهج وحيد وخيار نهائي للنّظام في التعامل مع الثّورة الشعبيّة، والذي لا يمكن إهماله عند ذكر السياقات المختلفة باعتباره الدافع الرئيس لبروز مختلف الظواهر العنفيّة في الثورة السوريّة. 

أولًا: التّدين الاحتجاجيّ بين التعبير والتنظيم 
أفضت العديد من العوامل إلى نشوء حالة من التديّن الشعبيّ في عدد من المناطق المهمشة في سورية. لعل أهمها انتشار المعاهد الشرعيّة، والتي يتسم بعض خريجيها بالتشدد متأثرين بنتائج احتلال العراق عام 2003، ولم يصطدم هؤلاء مع النظام الحاكم لأسباب عدة، أبرزها غض الطرف عن نشاطهم الدعويّ والتنظيميّ الهادف لمحاربة الغزو الأميركي انطلاقًا من تفسير عقيديّ صرف، وتسهيلُ السلطات السوريّة إرسال مجموعات المقاتلين السلفيّين إلى العراق كمجموعة صقور القعقاع( ). وقد بقيت هذه الظاهرة محدودة في المجتمع السوريّ، وانحصرت في بعض القرى الريفيّة المهمشة. وضيّقت عليها السلطة الرسمية بعد تقاطعات مصلحيّة أنتجتها مع الإدارة الأميركيّة بشأن العراق بدءًا من عام 2007، وتمخّض عنها زيادة التنسيق الأمنيّ والاستخباراتيّ بينهما. 
لم يخرج الشارع السوريّ محتجًا من أجل إقامة حكمٍ إسلاميّ، ولم يتحرّك بإرادة رجال الدين أو الأحزاب الدينيّة، وإنما خرج من أجل المطالبة بالحريّة والكرامة في وجه نظام استبداديّ وفاسد. وقد حدَّد الشارعُ في البداية موقفه من الجميع استنادًا إلى اعتباراتِ المواطنة والوطنيّة ومصالح الشعب، فهو -على سبيل المثال- لم ينظرْ بعين الاحترام إلى عدد من رجال الدين الإسلاميّ كالبوطي وحسّون على خلفية اصطفافهما إلى جانب نظام الاستبداد، ورُفعت في كلّ المناطق السوريّة شعاراتٌ وطنيّةٌ ترى الشعبَ السوريّ كلاً واحدًا موحّدًا. وإذا كان البعض يلوم المتظاهرين على خروجهم من الجوامع أو على ترديدهم صيحات "الله أكبر"، فإنّ هذا يحدثُ بسبب نظام القمع والقتل والاستبداد الذي يقوم بكلّ ما هو إجراميٌّ لمنعهم من الوجود في الساحات العامّة. 
وقد غذّت عملية القمع الأمنيّ للاحتجاجات نمو تيارات متشددة. وبدأت تظهر إلى العلن حالات حركيّة سلفيّة المظهر، وذلك بداية من شهر تشرين الأول /  أكتوبر 2011، ولم تكن موجودة في السابق( ). وكان من أبرزها "حركة المؤمنين السلفيّة في سورية" بزعامة لؤي الزعبي()، والذي دعا في وقت مبكر إلى حمل السلاح، بذريعة أن "التظاهرات السلميّة ليست قادرة على إسقاط النّظام". 
ومع تطور الأحداث وفشل مساعي الجامعة العربيّة -وآلياتها التنفيذيّة من خلال بعثة المراقبين العرب- في وضع حدٍ للعنف، وفي غياب الحلول السياسيّة التي تضمن الانتقال إلى النظام الديمقراطيّ بصورة سلسة، بدأت حركات "جهاديّة" تظهر على نحوٍ محدودٍ تذكِّر ملامحها الأساسية بالنّمط الذي انتشر في العراق، مع فرق أنّه لا يوجد احتلال أجنبي في سورية، وأنّ تيار النضال الرئيس لا يزال سلميًّا شعبيًّا، تتوسع قاعدته الاجتماعية يوميًّا، أفقيّا وعموديّا، لتضم شرائحَ وطبقاتٍ جديدة خرجت عن صمتها، أو غيرت مواقفها، وهو ما لم يكن قائمًا في العراق في أي مرحلة بعد عام 2003، وحتى انطلاق الربيع العربيّ عام 2011. 
 تعد "جبهة النّصرة لأهل الشام" من الجماعات السلفيّة الجهاديّة التي نشأت في غمرة الانتفاضة الشعبيّة في سورية. والتي أصدرت بيانها الأول في 24 كانون الثاني  /  يناير 2012, دعت فيه السوريّين للجهاد وحمل السلاح في وجه النظام السوريّ. وقد حدد البيان الهدف من إنشاء الجبهة بالقول "إنها جاءت سعيًا من مؤسسيها لإعادة سلطانِ اللهِ إلى أرضِه، وأن نثأر للعرضِ المُنتَهَك والدمِ النازِف". كما رفض بيان الجبهة سعي بعض القوى السياسية في المعارضة إلى استدعاء التدخل الخارجيّ ومحاولتها الاستعانة بقوى غربيّة للخلاص من نظام حزب البعث الحاكم، انطلاقًا من فكرة أن "العمل الجهاديّ" بإمكانه تحقيق هدف إسقاط النظام، والوصول إلى "الدولة الإسلاميّة". كما انتقدت الجبهة تركيا، وإيران، والجامعة العربيّة وخطة المراقبين العرب في تلك الفترة( )، على اعتبار أنّ المبادرات التي تطرحها تهدف إلى إنقاذ النظام السياسيّ في سورية.
تبنّت جبهة "النُّصرة" منذ إنشائها عددًا من الهجمات والتفجيرات في مدينتي حلب ودمشق، كما أعلنت مؤخرًا مسؤوليتها عن تفجير دير الزور الذي استهدف فرعي الأمن العسكريّ والمخابرات الجوية في يوم 19 أيار /  مايو 2012، ومسؤوليتها عن إعدام 13 جنديًّا في دير الزور (29 أيار /  مايو 2012). وعلى الرغم من الجدل المستمر في الشارع الاحتجاجيّ بشأن حقيقة وجود الجماعة ونشاطها، والميل لاتهام النظام السياسيّ بافتعال التفجيرات بالاستناد إلى وقائع تتعلق ببيانات الجبهة التي يدحضها عدد من الخبراء الإسلاميين في ضوء تحليل الخطاب، لأنها لا تتسق مع خطاب تنظيم القاعدة( )، إلا أنّ مؤشرات عدة تدلّ على دخول بعض عناصر القاعدة إلى سورية عن طريق لبنان والعراق، وأن "جبهة النّصرة لأهل الشام" قد تكون إطارًا أو مظلة حركيّة لوجودهم على الأراضي السوريّة. إذ يُعتقد أن الجبهة تتّخذ من حمص وإدلب مركزًا لها في قتالها ضد النظام السياسيّ في سورية متسلحةًّ بفهم طائفيٍّ، وتحت ذرائع ثأرية "لأهل السنة" في حمص تحديدًا، وفي سورية بشكل عام(**)( ). كما أعلنت الجبهة أنّها شكّلت تنظيمًا فرعيًا تابعًا لها في إدلب يسمى "كتائب أحرار الشام"( )، تبنّى العديد من العمليات في إدلب(***). والذي يشير اسمه إلى الخلو من البصمة الدينيّة المشحونة في اسم "النصرة" بما قد يحتمل أنّه إطار عريض للتعبئة والتجنيد( ).
 لا يُعرف حتى الآن ما أصل هذه المنظمة وما هي حقيقة وجودها، إذ لا يمكن نفي إمكانيّة وجودها الفعليّ، مع إمكانيّة اختراقها من قبل النظام. وفي الوقت ذاته، هنالك كثير ممن يشككون في وجودها وفي علاقتها بتنظيم القاعدة، خاصة عند تحليل بياناتها ومقاطع الفيديو الصادرة عنها، التي أعلنت فيها تبنّي عددٍ من العمليات. وهنا لا بد من الأخذ في الاعتبار احتمال تصنيع أجهزة النظام السوريّ لهذه المنظمة، وهي الأجهزة الضليعة في إدارة الحروب الأهلية وخلط الأوراق على أرض الواقع بهدف الاحتفاظ بموقع الحكم في الساحة، والطَرَف الذي يمكن أن يلجأ إليه الجميع في النهاية لتثبيت الأمن والاستقرار.
برز أيضًا خلال الثورة السوريّة نمطٌ من التدين "الشعبويّ" المُطعّم بمصطلحات سلفيّة في الخطاب، لكنه يتمايز عن التدين السلفيّ بمعناه المحدد الذي يرتبط بالمرجعيّة الوهابيّة أو النجديّة أو السلفيّات الواضحة الحدود. وقد انتشر هذا النوع من التديّن في الوسط الريفيّ الذي تعرّض خلال السنوات الأربع الأخيرة إلى تدهورٍ كبير في مؤشرات تنميته البشريّة، ولا سيما في مؤشرات فقر الدخل والتعليم والصحة والحرمان وضعف الأمن الإنسانيّ. كما تأثر هذا التدين بالفضائيات التبشيريّة والدعويّة التي يعتمد بعضها خطابًا تعبويًّا طائفيًّا.
يعدّ هذا التدين عمومًا تدينًا احتجاجيّا أو اعتراضيّا مفهومًا لهذه الفئات نتيجة تدهور وضعها المعيشيّ وأحوالها الحياتيّة بشكل عام، لكن هذا النمط لا يشرح أسباب الاحتجاج، بل يشرح شكل الوعي العام الدافع إلى المواجهة وتحويل التناقض الاجتماعيّ السياسيّ في بعض الأحيان إلى تناقضٍ طوائفيٍ في مجتمعٍ مركب الهويّة، إذ تختلط السلفيّة الشعبويّة مع الطائفيّة الحادة، وتأخذ طابعًا تحريضيًّا، يعزز الانحرافات الحاصلة ويغذي أسباب ديمومة الاضطرابات الأهليّة والاجتماعيّة، ويرسخ الشرخ والاستقطاب المجتمعيّ الذي يحصل في الأزمات الكبرى في المجتمعات المتعددة دينيّا، وطائفيّا( ). وقد أسهم هذا الخطاب في تشكيل وعي مقلوب عن الصراع في سورية في بعض المناطق. وأدى ذلك إلى بروز نهجٍ إقصائيّ يحيد في بعض أهدافه عن النهج المدنيّ الديمقراطيّ العام للثورة السورية، باتجاهات فرعيّة وطائفيّة. بيد أنّ هذا الخطاب الذي حظي بمتابعة شرائح عدة في البداية، نتيجة شعبويّته المحفزة، تقلّص تأثيره بعد اشتداد حدة الصراع مع النّظام، وإدراك المحتجين أنّ قيمه ورموزه قد تشكل خطرًا على شموليّة الثورة كإطارٍ جامع لمختلف الاتجاهات الديمقراطيّة ضد الاستبداد.

ثانيًا: أنماط العنف المرافقة للثورة السوريّة:
لا يزال الطابع الاحتجاجيّ المدنيّ السلميّ بشموليّته هو المحدد الرئيس في توصيف الثورة السوريّة، على اعتبار أنّ الظواهر العنفيّة التي برزت مرافقة للاحتجاجات لم تستطع أن تفرض نفسها كظاهرة تطغى على الحراك الشعبيّ السلميّ وتقلص من وتيرته في معظم المحافظات السوريّة.
شكلت حادثة الهجوم على المراكز الأمنيّة في مدينة جسر الشّغور مطلع حزيران /  يونيو 2011، بداية بروز الظاهرة المسلحة في الثورة السوريّة، خاصة بعد إعلان المقدم المنشق حسين هرموش عن تشكيل لواء الضباط الأحرار في يوم 3 حزيران /  يونيو 2011، والذي أناط به مهمة مواجهة الجيش النظاميّ والدفاع عن المدينة آنذاك. بعد ذلك، أعلن العقيد المنشق رياض الأسعد عن تأسيس الجيش السوري الحر في يوم 29 حزيران /  يونيو 2011، كإطارٍ جامع للضباط والجنود المنشقين عن الجيش النظاميّ، وأناط بكتائبه التي قال إنها انتشرت في معظم المدن السوريّة حماية التظاهرات السلميّة، والتصدي للاقتحامات الأمنيّة والعمليات العسكريّة.
لم تنحصر الكتائب المسلحة تحت يافطة "الجيش السوري الحر" في الضباط والجنود المنشقين، وإنما غدت هذه اليافطة غطاءً عريضًا لمختلف أشكال التّسلح وأنواعه الفرديّة والأهليّة في مواجهة القوات الحكوميّة في عملياتها ضد المحتجين. لكن مظاهر العسكرة وإن كانت تجد في عملية جسر الشغور أحد أبرز جذورها المبكرة والواضحة، إلا أنّها لم تتبلور كظاهرة إلا في مطلع العام الحالي. ويمكن تفسير ذلك ببروز مؤشرات عن استنفاذ جميع الحلول السياسيّة والمقترحات العربيّة والدوليّة لإيجاد مخرجٍ سلميّ للأزمة السوريّة. إذ أدّى استخدام روسيا والصين الفيتو ضد مشروع القرار الذي تقدمت به الجامعة العربية إلى مجلس الأمن في 4 شباط /  فبراير 2012، إلى مراجعة شاملة في داخل التنسيقيّات والهيئات التنظيميّة وبعض قوى المعارضة لمسار الثورة السوريّة، وآليّة الاستمرار، فاعتُمد خيار الكفاح المسلح المنظم كخيارٍ متفاعلٍ مع استمرار التظاهرات والاحتجاجات السلميّة. وقد توضّح هذا الخيار مع بروز ظاهرة المدن "المحررة" كما في إدلب، وحي بابا عمرو في حمص، ودوما والزبداني في ريف دمشق. وتلا ذلك عمليات عسكريّة واسعة قام بها الجيش النظاميّ لاستعادة السيطرة على هذه المناطق أمنيًّا وعسكريًّا. ومنذ مطلع شهر شباط /  فبراير 2012، غدت العمليات العسكريّة والمواجهات المسلحة حدثًا يوميًّا متواترًا حتى بعد التوافق الدوليّ على خطة كوفي عنان، والالتزام المعلن بوقف إطلاق النار منذ تاريخ 12 نيسان /  أبريل 2012. وانطلاقًا من ذلك، يمكن تحديد ثلاثة أنماط للمسار المسلح "العنفيّ" المرافق للاحتجاجات الشعبيّة السلميّة وهي:
1. النمط الاستهدافيّ ( الكفاح المسلح)
يتجلى هذا النمط من خلال عمليات الكتائب المسلحة المنظمة مناطقيًّا في التصدي للاقتحامات الأمنيّة والعسكريّة وحماية ديمومة التظاهرات السلميّة واستمراريتها. ولا يخضع نشاط الكتائب المسلحة بالضرورة لتحكم مركزيّ من قيادات الجيش السوري الحر، أو للتنسيق في عملها، بل يأخذ أداؤها أشكالًا متعددة يعكس نمط تموضعها، وفق منهج حرب العصابات التي تحتضنها بيئة اجتماعيّة موحدة على غرار مدينة حماه وريفها، وحمص، وإدلب، وريف دمشق، وريف حلب الشماليّ، وبعض أحياء دير الزور، ودرعا.
 إن الشكل العام لنشاط هذه الكتائب -استنادًا إلى مصادر التسلح المحدودة- يتضح من خلال إعاقة اقتحام المدن، والقرى الموجودة فيها أو استهداف الحواجز الأمنيّة والعسكريّة بالقذائف الصاروخيّة البسيطة (أر بي جي)، أو العُبوات الناسفة المحلية الصنع في غالبيتها. ويمكن فهم هذا النمط في حال وضعه في خانة المسار التطوريّ للتسلح، وطبيعة تحرك الفاعلين في الثورة، خاصة فيما يتعلق بالرد على العمليات القمعيّة والأمنيّة والعسكريّة لإخماد الثورة.
كما يرتبط هذا النمط طرديًّا بزيادة إمدادات السلاح الداخليّة والخارجيّة أو تراجعها. وقد تعاظم هذا النمط مؤخرًا -على الرغم من إعلان "الجيش الحر" الالتزام بوقف إطلاق النار، كما تحدد خطة عنان-، نتيجة التراجع النسبيّ في العمليات العسكرية للنظام السياسيّ من جهة، وتوفر جهات ودول راغبة وراعية لإمدادات السلاح إلى الداخل السوريّ، بهدف إنتاج توازن في القوى وفق منطق حرب العصابات من جهة أخرى. 
2. النمط الجرائميّ ( الطوائفيّ)
أسهم القمع الأمنيّ والعسكريّ للاحتجاجات في بعض المدن التي يضم نسيجها الاجتماعيّ طوائف متعددة، لا سيما مدينة حمص، في استقطابٍ نَجَمت عنه اضطرابات اجتماعيّة برزت عيانًا منذ شهر أيلول /  سبتمبر 2011. وتُعزى في مسبباتها الرئيسة إلى غياب سلطة الدولة، وهشاشة الهويّة الوطنيّة، وضعف المجتمع المدنيّ. وقد استعارت هذه الاضطرابات في بعض تفاصيلها صورًا من مشهد "ديالى" في العراق، من ناحية العنف المجتمعيّ والقتل الجماعيّ لأسباب تنحصر فقط ضمن الانتماء الطائفيّ. إذ حصلت عمليات خطف متبادلة، وحصلت حوادث قتل بطرق بدائيّة، كان أسوأ مشاهدها فظاعةً ما حصل في حي كرم الزيتون في مدينة حمص عندما قُتل 47 شخصًا في يوم 12 آذار /  مارس 2012، غالبيتهم من النساء والأطفال، وقامت بها ميليشيات مسلحة من حي عكرمة "ذو الأغلبية العلويّة" ضمن الفعل الثأريّ لجثثٍ مشوهةٍ وجدت في الحي آنذاك. لقد حمل هذا المشهد في ثناياه كمًّا من صور الإهانة والإذلال وملامح الكراهيّة، ما بين فقء العيون، والطعنات الحادة المتكررة، والتقطيع والحرق، وهي مشاهد تفسّر كيفية تبلور "الآخر" المختلف طائفيًّا في صورة "العدو". 
أدى اقتحام وتدمير حي بابا عمرو في حمص إلى انحدار آليات الضبط الاجتماعيّ الهشة آنذاك إلى أدنى مستوياتها، فتكررت جرائم العنف الطائفيّ وصورها، إذ تكرر مشهد حي كرم الزيتون مجددًا في حي "الرفاعي" في مدينة حمص في يوم 21 آذار /  مارس 2011، ليجسّد على نحو بين مشهد ديالى في العراق، عندما أقدمت مليشيات طائفيّة موالية للنظام على قتل 39 شخصًا من الحي بعد اقتحام الجيش له، وخروج المسلحين الأهليّين منه. وقد حاكت هذه الجريمة مشاهد التّمثيل والتّقطيع، والحرق في الجرائم الطائفيّة السابقة. 
بعد موافقة النظام السوريّ على خطة كوفي عنان في يوم 25 آذار /  مارس 2012، ودخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في يوم 12 نيسان /  أبريل 2012، تراجعت العمليات العسكريّة والمواجهات المسلحة، وانخفضت وتيرة العنف المجتمعيّ والطائفيّ، وقلّت حالات الاختطاف والقتل الطائفيّ، وغابت بدرجة كبيرة مشاهد الجثث المشوهة. وأمام واقع الهدوء النسبيّ، نشطت الفعاليات الأهليّة والوساطات لإشاعة المصالحة والإفراج عن المخطوفين من الجانبين. 
لم يدم مناخ التهدئة طويلا حتى حصلت مجزرة الحولة (تلدو)( ) في يوم 25 أيار /  مايو 2012 التي قُتل فيها أكثر من 100 شخص -كانت غالبيتهم من الأطفال والنساء- بطريقة بدائيّة تذكّر بجرائم الكراهيّة السابقة.
ترافقت عدة وقائع مع وقوع المجزرة، منها تهيّؤ الجيش السوري لاقتحام المدينة ومواجهته المسلحة مع المسلحين المنشقين والمتطوعين على مداخلها، واستخدامه للأسلحة الثقيلة في هذه المواجهة، إضافة إلى جرائم عنف طائفيّ حصلت في قرية الشومرية القريبة من الحولة، والتي قُتل فيها أطفال ونساء بالطريقة البدائيّة بذاتها، اتهمت السلطات الرسمية مسلحين معارضين بالقيام بها. أتبع تلك الوقائع قيام ميلشيات من قرى علويّة محاذية لمدينة الحولة بالهجوم على المدينة، وقَتل الأطفال والنساء وفق المنطق الثأريّ الانتقاميّ لما حصل في قرية الشومرية، وفي بعض قرى مصياف القريبة من مدينة الحولة.
كانت مجزرة الحولة نقطة تحولٍ في الحراك الاحتجاجيّ، الذي تصاعد في مختلف المدن السوريّة ضد النظام في أعقاب تواتر صور المجزرة في وسائل الإعلام، في حين مالت قوى سياسيّة معارضة، إضافة إلى قيادة الجيش الحر، إلى إعلان فشل خطة عنان والتجهز لبداية المرحلة المسلحة التي ستشكل أبرز معالم المرحلة الجديدة.

3. نمط التفجيرات 
برز هذا النمط طارئًا ومفاجئًا في الثورة السوريّة نهاية العام الماضي، إذ لم توجد معطيات جادة أسست لظهوره، خاصة وأنّ ملامحه ومتطلباته تفوق في الواقع البعد الأهليّ أو المحليّ، وقد تركّز إلى حد كبير في المدن الكبرى كدمشق وحلب:
استهدفت سيارتان مفخختان في يوم 23 كانون الأول /  ديسمبر2011 إدارة أمن الدولة في كفرسوسة وفرع أمن المنطقة بالقرب من البرامكة(****)( ). وحمّلت السلطات السوريّة -منذ اللحظات الأولى- تنظيم القاعدة المسؤولية عن التفجيرين. تلا ذلك اتهام الإعلام السوريّ الخاص (القريب من السلطة) جماعة الإخوان المسلمين في سورية بعد تناقل وكالات الأنباء عن موقع "إخوان أس واي" بيانًا لتبنّي الجماعة تفجيرات دمشق(*****)( )، ولكن الاتهام انحصر في القاعدة بعد أن نفت جماعة الإخوان المسلمين ذلك البيان، ودلّت على أن الموقع الإلكتروني الذي أورده "مصطنع ومفبرك"، واتهمت السلطات السوريّة بذلك(#)( ). وتشير محاولة الأجهزة السوريّة إلصاق تهمة التفجيرات بالإخوان المسلمين بفبركة موقع إلكتروني إلى خبرة هذه الأجهزة في الاستفادة من العمليات التفجيريّة كما في لبنان والعراق، وتثير الشكوك والشبهات حول دورها. 
حصل تفجير انتحاري في يوم 6 كانون الثاني /  يناير 2012 في حي الميدان، أبرز الأحياء الدمشقيّة المنتفضة على النظام، وأدى إلى مقتل 26 شخصًا، وجرح 63 شخصًا آخرين من المدنيين وقوات حفظ النظام( ).
حدث انفجاران في يوم 17 آذار /  مارس 2012 في دمشق، استهدف الأول مبنى إدارة المخابرات الجويّة في ساحة التحرير، أما الانفجار الثاني فقد استهدف إدارة فرع الأمن الجنائيّ في ساحة الجمارك، ونجم عن الانفجارين مقتل 40 شخصًا وإصابة 140، غالبيتهم من المدنييّن.
حصل انفجار بسيارة مفخّخة في منطقة السليمانيّة في يوم 18 آذار /  مارس 2012، كان يستهدف منبى الأمن السياسيّ من دون أن يوقع خسائر بشريّة.
في يوم 18 أيار /  مايو 2012، حصلت الانفجارات الأعنف في منطقة القزاز التي يوجد فيها مركز الأمن العسكريّ فرع فلسطين وفرع الدوريات، ومبانٍ أمنية أخرى، وقُتل فيها 55 شخصًا.
استهدفت سيارة مفخخة في 19 أيار /  مايو 2012 مباني سكنية (مساكن حي غازي في دير الزور)، والتي يوجد فيها فرع المخابرات العسكريّة والمخابرات الجويّة والمشفى العسكريّ، وقد أدى الانفجار إلى مقتل تسعة مدنيين، وإصابة 100 غالبيتهم من المدنيين( ).

لا يزال هذا النمط مبهمًا من حيث الجهة المسؤولة عنه وإن تبنّته حركات جهاديّة تحيط بحقيقة وجودها الفعليّ الشكوك، أو احتمال اختراقها. كما أنّ الظهور المفاجئ لهذا النمط والمتزامن عادة مع مبادرات سياسيّة إجرائيّة مثل بعثة المراقبين العرب، وفريق المراقبين الدوليين، يطرح العديد من الأسئلة عن الطرف المستفيد، وهو ما يستند إليه المحتجون لاتهام النظام. ويعزز هذا الاتجاه تشتّت السلطة إعلاميّا في تحديد الطرف المتهم بالاتهام الاعتباطيّ السريع لتنظيم القاعدة من دون قيام تحقيق جديّ وإثبات دلائل قاطعة وواضحة، أو اتهام المعارضة المسلحة أو بعض القوى الحزبية المعارضة بالمسؤولية عنها تارة أخرى. خاصة وأنّ معطيات إعلاميّة عديدة برزت وأثبتت اصطناع الإعلام الرسميّ لمشاهد لم تكن موجودة في مواقع التفجيرات من أجل توظيفها ضمن إستراتيجيّة الصورة لتشويه الثورة( ).
على الرغم من التّشكيك السابق، إلا أنّ إمكانيّة مسؤولية جماعات جهاديّة -لها أهدافها الخاصة- عن هذه التفجيرات هي احتمال وارد، نتيجة ضعف السيطرة الأمنيّة ووهنها، لكنها تبقى خارج إطار المسار الطبيعيّ للثورة حتى وإن ادّعت مناصرتها.

ثالثًا: هل فتحت التفجيرات مرحلة جديدة؟
لا يمكن الجزم نهائيًّا بأنّ التّفجيرات السّابقة بعينها تؤشِّر لمرحلةٍ جديدةٍ في الثّورة السوريّة؛ تختلف جذريًّا عن مراحل سابقة. هذا على الرّغم من ظهور تغيُّرٍ مرحليٍّ في نبرة الخطاب التّصعيديّ لبعض القوى الدّولية الفاعلة، على خلفيّة مخاوف وتحذيراتٍ من انحدار الصّراع في سورية إلى هذا النمط. 
إنّ المحدِّد الأهمّ الذي افتتح مرحلةً جديدةً في الثّورة السّوريّة، يتجلّى في استعصاء الحلّ السياسيّ؛ وذلك بعد العجز البنيويّ للنّظام عن احتواء الأزمة أو التعاطي إيجابيًّا مع مسبِّباتها. وقصوره عن تجاوز الفهم الأمنيّ الضيِّق لها إلى فهم جذورها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وإخفاقه في طرح أيِّ آليةٍ سياسيّةٍ إجرائيّةٍ انتقاليّةٍ جدّيةٍ للتحوّل السّياسي الدّيمقراطيّ في سورية. ويُضاف إلى ذلك رفضُ النِّظام السّوري التّعاطي مع أيّ مبادراتٍ سياسيةٍ تغيِّر من نمط الحكم القائم وآليّاته بشكلٍ أساسيٍّ، وفشل المبادرة العربية وإفشالِها على خلفيّة تشابك المصالح الجيوسياسيّة للفاعلين الدّوليّين والإقليميّين.
لقد فتح غياب الحلّ السّياسي الباب واسعًا أمام تعاظم ظاهرة العسكرة العفويّة والمنظَّمة تحت اسم الجيش الحرّ. وترسَّخ خيار الكفاح المسلَّح بشكلٍ أضحى شارحًا للمسار التطوُّري للثّورة السّورية؛ من دون أن يؤدّي إلى تراجعٍ في وتيرة حركة الاحتجاجات الشّعبيّة. وهي احتجاجاتٌ حافظتْ على زخمها وقوّة حضورها واستمراريّتها في بؤَرِها التّقليدية، مع ملامستها حلب ودمشق، وخصوصًا طلّاب جامعة حلب. وغدا استمرار الاحتجاجات مرتبطًا بمهمّةٍ وظيفيّةٍ، تتمثّل في التّأكيد على فشل الحسم العسكريّ، الذي أعلنه النّظام إثر الفيتو الروسيّ الصينيّ كإستراتيجيّةٍ لاستعادة السّيطرة الأمنيّة على المناطق التي خرجت عن سيطرته، وقمع الحركة الاحتجاجيّة في آنٍ معًا. 
تطرح المؤشِّرات السّابقة العديد من التّساؤلات عن معالم المرحلة الجديدة، وخصائصها، والمسار التطوريّ لها على المستويات كافة. وانطلاقًا من ذلك، يمكن استقراء تطوّر الأحداث في سورية على مستوييْن:

1. المستوى المحلّي 
لم يعد التسلّح ظاهرةً ريفيّةً أو بدائيّةً، أو أفعالًا فرديّةً وجماعيّةً محدودةً؛ بل بات ظاهرةً أهليّةً في البلدات التي تضعُف السيطرة الأمنيّة والعسكريّة عليها. وغدت فكرة التسلّح مقنعةً لشرائح واسعةٍ من المحتجّين والمناوئين للنظام السياسيّ في سورية. وأُدرج التسلُّح رسميًّا في برنامج عمل المعارضة، بعد تبنّي الجيش الحرّ ودعمه من جانب المجلس الوطنيّ؛ الذي يضمّ طيفًا واسعًا من تشكيلات المعارضة السورية. 
ومن أبرز مؤشِّرات هذه المرحلة تنظيم التسلّح، ومحاولةُ مأْسَسَتِه؛ لتجنّب تداعيات انتشاره اعتباطيًّا، وذلك من خلال تأسيس المجالس العسكريّة في المدن. وهي مجالس تضمّ ضبّاطًا، وجنودًا منشقّين، ومسلَّحين أهليّين. وتشرف عليها كوادر نشطةٌ تنتمي إلى أحزابٍ سياسيةٍ، وجمعيّاتٍ خيريّةٍ، وهيئاتٍ إغاثيّةٍ. وتقوم على تمويلها وضمان إمدادات السّلاح لها. ولعلّ حركة الإخوان المسلمين، وهيئة الإغاثة السوريّة المتناسقة فكريًّا وإيديولوجيًّا معها؛ هما الأكثر نشاطًا في هذا المجال. وقد تعرضت جماعة الإخوان لانتقاداتٍ عديدةٍ من بعض قوى المعارضة، لحصرها التسلّح في أوساطٍ شعبيّةٍ مؤيِّدة لها؛ إذ اتَّهمَ العميد مصطفى الشيخ -رئيس المجلس العسكري للجيش الحرّ- جماعةَ الإخوان المسلمين بتنظيم جناحٍ عسكريٍّ لها داخل سورية تحت مسمّى هيئة حماية المدنيّين، وهم يمدّونها بالسّلاح على حساب "الجيش السّوري الحرّ"( ). 
لقد فسّرت غالبيّة أطياف المعارضة السّورية التّوافق الدّولي حول خطّة عنان، في إطار "ملء الفراغ" الذي تسبّب فيه غياب مبادراتٍ أو إجراءاتٍ من شأنها تغيير موازين القوى في المشهد الميداني؛ وذلك بحكم الممانعة الرّوسيّة والصّينيّة لأيّ خطوةٍ من هذا القبيل. لذلك قبلت تلك الأطياف المعارضة الخطّةَ سياسيًّا وبحذرٍ؛ نظرًا لصعوبة تنفيذ النّظام لنقاطها، وسماحها بإسقاطه احتجاجيًّا في السّاحات العامة. لذلك أدركت ضرورةَ إنتاج تسلُّحٍ نوعيٍّ ومنظَّمٍ، يخلق معادلةً جديدةً على الأرض. وذلك على نحوٍ تستطيع من خلاله تثبيط آلة النّظام القمعية، وتساهم في إحداث خللٍ أمنيٍّ قد يؤدّي إلى تفكك ذلك النّظام؛ مستفيدةً في ذلك من حالة الوهن التي أحدثتها الاحتجاجات المستمرّة منذ بداية الثّورة في شهر آذار/ مارس 2011. 
يمكن استقراء ذلك من تصريح المراقب العامّ لجماعة الإخوان المسلمين في سوريّة رياض الشّقفة؛ إذ اعترف بلا جدوى خطّة عنان، وبالتنسيق مع رجال أعمالٍ سوريّين في الخارج من أجل تسليح المعارضة وفق مبرِّراتٍ تعدّ أنّ "الدّفاع عن النّفس حقٌّ مشروعٌ أكّدته الشّرائع السماويّة". ورأى أنّ مطلب التّسليح لم يكن محصورًا في حركة الإخوان، بل "طالب به كل أعضاء المجلس الوطنيّ السوريّ تقريبًا"( ). 

2. المستوى الدّولي
بدأت التّحذيرات من انتقال مقاتلين غير سوريّين إلى سورية -أيًّا كانت الخلفيّة الأيديولوجية التي تحكمهم- مع تصريحات نائب وزير الداخليّة العراقي عدنان الأسدي في يوم 11 شباط/ فبراير 2012؛ وذلك عندما أكّد أنّ هناك "مجاهدين" يتسلّلون من العراق إلى سورية( ). وتزامنت التّفجيرات في سورية مع تأكيد وزير الخارجيّة الليبيّ على احتماليّة وجود مقاتلين ليبيّين في سورية بشكلٍ غير رسميٍّ( ). وفي وقتٍ لاحقٍ، أعلن وزير الدّاخلية التّونسي في منتصف أيار/ مايو 2012 عن الأمر ذاته؛ مؤكِّدًا وجود مقاتلين تونسيين في سورية( ).
لوحِظ اختلافٌ في نبرة الخطاب الدوليّ، مع استمرار التّفجيرات في سورية؛ وخاصّة بعد تفجير القزاز في يوم 18 أيار / مايو 2012. فقد تبنّى الأمين العام للأمم المتّحدة بان كي مون لأوّل مرّةٍ خطابًا، أشار فيه إلى احتمال مسؤوليّة القاعدة عن تفجيرات القزاز( )؛ وذلك على الرّغم من تخفيفه صحّة هذا الاحتمال في وقتٍ لاحقٍ. 
غير أنّ نبرة الخطاب الدّولي التي ترافقتْ مع التّفجيرات، لم تمنع العديد من القوى الفاعلة في الأزمة السّورية من استكمال الضّغوط، ومن المحاصرة الدّبلوماسيّة للنّظام؛ وذلك على خلفيّة استمرار عمليات القمع، لاسيّما بعد مجزرة الحولة. فقد دان بيانٌ رئاسيٌّ "غير ملزمٍ" -صدر عن مجلس الأمن، في يوم 27 أيار / مايو 2012- ارتكابَ النّظام السّوري مجزرة الحولة، بموافقةٍ روسيةٍ صينيّةٍ لأوّل مرّةٍ. وقد تلا الإدانة الأمميّة مجموعةٌ من الخطوات التصعيديّة؛ أبرزها قيام كلٍّ من فرنسا وإيطاليا وألمانيا والبرتغال وإسبانيا وأستراليا وكندا وبريطانيا والولايات المتّحدة وتركيا، بطرد السّفراء السّوريّين أو القائمين بالأعمال من بلادهم. 
وقد بدا واضحًا أنّ تبنّي خطاباتٍ دوليّةٍ غير واضحة المعالم، لا يغيِّر من المحدِّد الأساسيّ للسّياسات الخارجيّة للدّول؛ المتمثِّل في المصالح الوطنيّة، والمحدِّدات التي تحكم نظامها السّياسي. فقد دفع توازن القوى الموجود في الحالة السورية، إلى استبعاد فكرة التدخّل الخارجي، واللّجوء آنيًّا إلى سياسة العقوبات، والتّضييق والمحاصرة الدّبلوماسيّيْن؛ هذا مع الانفتاح على إجراءاتٍ أخرى لم يحصل إجماعٌ حولها، لاسيّما ما تعلّق منها بتسليح المعارضة. ومقابل الانكفاء الدّولي الحاصل، يسعى النّظام السّوري سياسيًّا وإعلاميًّا إلى الاستفادة من هذا الواقع؛ وذلك من أجل التقدّم في توظيف الأنماط العنفيّة المرافقة للثّورة السّورية، وخصوصًا منها نمط التّفجيرات. كما يعمل النّظام السّوري على إسقاط روايته هو على الثّورة السّورية، وبأثرٍ رجعيٍّ؛ دافعًا إلى تحوير مسار الثّورة ليقارب في اتّجاهه الحالة الجزائريّة في التسعينيّات، وبشكلٍ يضمن بقاءه عن طريق مشروعيّة تحقيق الأمن داخليًّا، ومواجهة القاعدة والإرهاب خارجيًّا. ولعلّ تركيزه على هذا الجانب في مخاطبة الغرب، يُعدُّ أبرز الأدلّة على سقوط شرعيته السياسية والأخلاقيّة داخليًّا ودوليًّا؛ لاسيّما أنّ القوى الدّوليّة المؤيِّدة لبقائه، تقارب هذا الموقف من جهة مصالحها الوطنيّة والتوازنات الجيوستراتيجيّة.

خلاصة
إنّ العوامل السّابقة -على أهميّتها- قد تعيق إنضاج التغيُّر في سورية وتؤخِّره؛ لكنّها لا تستطيع منعه لأسبابٍ عدّةٍ:
استمرار الحالة الثّورية المدنيّة الضّاغطة على النّظام، من خلال الاحتجاجات السلميّة التي لاتزال تحافظ على وتيرة زخمها، وتتوسّع في مناطق جديدة غابت عن المشاركة بفعاليّةٍ في الحراك الاحتجاجي عند انطلاقته. هذا على الرّغم من ازدياد مظاهر العسكرة، وبروز نمط التّفجيرات. فقد دلّ حراك مدينة حلب مؤخَّرًا، على إمكانيّة تجذّر الاحتجاجات وديمومتها وتوسّعها بزخمٍ تدريجيٍّ أقوى في هذه المدينة ذات الأهمية الكبيرة اقتصاديًّا وبشريًّا. كما كان الإضراب الكبير الذي عمّ غالبيّة أسواق دمشق الكبرى، حدثًا مفصليًّا في الثّورة السّورية، وحمل مؤشِّرات دالّة على تغيّر سلوك الفئات البورجوازيّة في موقفها من الثّورة والنّظام. إنّ تعاظم هذه المظاهر من شأنه زيادة الضّغط على النّظام داخليًّا، وفي مفاصل قوّته الرئيسة. وقد يؤدّي ذلك إلى تغيُّر موازين القوى لصالح الثّورة؛ الأمر الذي يفرض وبقوّةٍ وجود برامج سياسيةٍ واضحة المعالم،  وخطابٍ ديمقراطيٍّ محفِّزٍ من جهة القوى الدّيمقراطية في سورية. وسيكون له أثرٌ بالغٌ في تغيير مواقف العديد من القوى الدوليّة والإقليميّة التي تحصِّن سياساتُها النّظام وتدعم بقاءه؛ لاسيّما أنّ مسؤوليّةً أخلاقيّةً تثقل كاهلها، بسبب الصّور البشعة النّاجمة عن القمع الأمنيّ المستمر للثورة السّورية. وعليه، فإنّ تضافر هذه العوامل مجتمعةً، سيجعل احتمالات التّغيير أكثر اقترابًا من دون شكٍّ. إذ ستنجح الثورة في تفكيك الحلقات الأساسية للنّظام، وإحداث الخلل فيها؛ وهو ما من شأنه أن يجبره على نبذ القوى والشّخصيات المناهضة للإصلاح والتّغيير، لاسيما رأس الهرم فيه، ويفتح الباب واسعًا لبدء عملية التحول الديمقراطي.
الخلل الأمني النّاجم عن تعاظم التسلّح، وزيادة أعمال الكفاح المسلّح بعد دخول العامل الإقليمي في دعمه. فقد أيَّدت بعض الدّول الخليجيّة فكرة تسليح المعارضة؛ غير أنّ المؤشِّرات الميدانيّة حتى الآن، لا تدلّ على وجود تسلّحٍ نوعيٍّ هجوميٍّ. ولاتزال إمدادات السّلاح تجري ضمن آليات التّهريب المعتادة، ولكن بوتيرةٍ أسرع. ويمكن تلمّس مؤشِّرات الخلل الأمنيّ من خلال زيادة رقعة المواجهات؛  لتشمل غالبية المحافظات السورية، بما فيها العاصمة دمشق، وزيادة المساحات الجغرافيّة التي تسيطر عليها الكتائب المسلحة الأهليّة والمنظمة، خاصة في المناطق الحدودية مع الدّول المجاورة (القصير، الزّبداني، جبل الزاوية، ريف حلب الشمالي، البوكمال). وذلك ما يضمن استمرار عمليات تهريب السلاح بمختلف أشكاله. 
لم يستطع النظام السوري حتى الآن تدارك هذا الخلل الأمنيّ؛ على الرّغم من الانتشار الواسع جغرافيًّا لآليّاته العسكريّة. كما أنّ الحيِّز الجغرافيّ الواقع خارج سيطرته الأمنية، يتوسّع باستمرارٍ؛ ممّا يجعل التّكلفة المادية للعمليات العسكريّة باهظة الثّمن. وهي تستنزف قدراته التي يرتكز عليها في نهجه، من دون شكٍّ. ويوصف هذا الواقع بترهّل الاقتصاد، وغياب الاستثمارات، واستنزاف الاحتياطيّ النقديّ، عدا أزمة الوقود؛ وذلك نتيجة توظيف الاحتياطيّ في المجهود الحربيّ. وقد بدأ ذلك الاحتياطيّ يتناقص بشكلٍ كبيرٍ نتيجة اتّساع العمليات العسكريّة وديمومتها من جهةٍ، وبروز أثر العقوبات الاقتصادية المفروضة على قطاع الطّاقة في سورية من جهةٍ أخرى. إذ أقرّ وزير النّفط سفيان العلاو بأنّ قطاع النّفط في سورية قد خسِر 4 مليارات دولارٍ؛ نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة على قطاع الطّاقة( ). وقد يشكّل كل ذلك مؤشِّراتٍ على تضعضع المنظومة الاقتصاديّة والأمنيّة والعسكريّة للنظام. وهو ما يفضي إلى انهيار قدراته القمعية، إذا ما تضافر مع عوامل أخرى. وعليه، فقد ينجح التسلّح النّوعيّ في خلق توازنٍ يثبط فاعلية الآلة العسكريّة القمعيّة. وقد يؤدّي إلى اختلالها؛ إذا ما توفّرت أسلحةٌ نوعيةٌ ذات فاعلية هجوميّة. وقد يساعد كذلك على زيادة فاعلية الاحتجاجات السلمية وانتشارها وقدرتها على الحشد اللّازم، لإنضاج التغيير. 
ينطوي هذا البعد على مخاطر تكمن في شيوع السّلاح، وفي غياب الدّولة مفهومًا؛ ذاك الغياب  المترافق مع زيادة التعصّب للانتماءات الفرعية. لذلك، فإنّ تجنّب مخاطر الاتّجاهات التّشاؤميّة السّابقة، يتطلّب انخراط اللّاعبين جميع السياسيين والاجتماعيين المؤمنين بعملية الانتقال الديمقراطي في تقليص هذه التداعيات. كما يقتضي وضع برنامجٍ إستراتيجيٍّ سياسي، يلحظ هذا الجانب في مرحلة ما بعد النّظام؛ كي لا يشكِّل عوائق جديةً للتحوّل الديمقراطي المبتغَى.
هكذا استطاعت الثّورة السورية أن تحافظ على زخمها وانتشارها؛ على الرّغم من جميع الظّواهر السّابقة. ووصلت بذلك إلى مرحلةٍ، يستحيل قمعها وإخمادها؛ لتنتقل في صراعها مع الاستبداد إلى التّفكيك التدريجي لحلقاته الأساسية. ويمكن استيعاب المظاهر السّابقة سوسيولوجيًّا، بفهم تركيبة المجتمع السوري، وقياس درجة القمع الأمني. ولا يمكن عدّ الانحرافات والتّفجيرات، ظواهر طاغيةً أمام الحالة الثّورية بشعاراتها الجامعة ومنطلقاتها الوطنيّة ضدّ الاستبداد. وتستطيع الثّورة السّورية أن تحدَّ من انتشار هذه المظاهر؛ بوعي الجمهور الثّائر، والنّخب السياسيّة، والقوى الدّيمقراطيّة، وآليات الضبط الاجتماعي الموجودة. ولكنْ كلّما طال مكوث النّظام وازداد القمع حدّةً؛ أصبح التحكّم في مسارات الفعل ورد الفعل أكثر صعوبةً.

موقع المركز الرسمي... 

(208)    هل أعجبتك المقالة (207)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي