أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

عندما "أكل" الرصاص صدور الحماصنة في إعتصام الساعة

احتفلت حمص بعيد الجلاء عام 2011 مثلما لم تحتفل أي مدينة أخرى في سورية، واحتفل أهلها كما لم يحتفل أي سوري آخر، بلحظات امتزج فيها الفخر بالألم، والحرية بالقهر، والشجاعة بالظلم والبربرية.
يوم الأحد 17-4-2011، كان موعد حمص مع دفعة جديدة من شهدائها، إذ سقط عدد من الأبطال سقطوا في حي باب السباع برصاص الغدر والوحشية أثناء مظاهرة حاشدة، وتلك كانت المرة الأولى التي تشهد تصعيداً مماثلاً.

الجميع يعلم أن جذوة الثورة في حمص قد اشتعلت قبل نحو شهر من ذلك التاريخ، مواكبة لشقيقاتها درعا وبانياس، لكنها لم تمتد في كل أنحاء مدينة ابن الوليد، وذلك لأسباب عدة، منها حاجز الخوف العالي جداً الذي كان منع شريحة واسعة من الناس من المشاركة رغم أنها كانت ترقب بفرح وخوف ما يحصل، إلا أن مجزرة عيد الجلاء كسرت كل ما بقي من خوف في نفوس أبناء العديّة.

يوم الاثنين الثامن عشر من نيسان، شهدت حمص أضخم تشييع للشهداء من جامع حمص الكبير وسط أجواء مشحونة، وسار موكب الشهداء من ساحة باب السوق قرب الساعة القديمة، مروراً بحي الحميدية الذي سُجّل فيه مشهد رمزي شديد الأهمية، حين شارك الأهالي من كل الطوائف في التشييع، في رسالة واضحة الدلالات عن توجه المواطنين بعيداً عن أي انتماء، وتم دفن الشهداء في مقبرة "الكثيب" في حي باب الدريب وكانت الجموع أصبحت أضخم مع توافد أهالي كافة الأحياء القديمة (باب الدريب، باب السباع، باب هود، باب تدمر، الخالدية) وجميعها محيطة بمنطقة التشييع والدفن، إضافة لكثيرين من أحياء أخرى أبعد، وكانت الخطوة الحاسمة بعد التشييع هي الانتقال للتجمع في ساحة الساعة الجديدة وهي إحدى رموز مدينة حمص، ومركزها التجاري الأساس.

اعترف شخصياً، بأنني كنت واحداً من الفئة التي تقف وراء حاجز الخوف عملياً، إذ لم أجرؤ على القيام بما قام به أبطال خرجوا منذ البداية للتظاهر والهتاف، إلى أن جاءني اتصال يوم التشييع من صديق عزيز طلب أن يراني عصر ذلك اليوم واستغربت حينها توقيت الموعد كوننا نلتقي عادة في المساء. التقيت به قرب أحد مساجد حي باب هود، وانطلقنا من هناك نحو ساحة الساعة وكنا نسمع هتافات وشعارات، ولا أخفيكم أنني كنت في حالة من الذهول والرهبة، كنت أعيش ما يشبه الحلم وأصحو منه للحظات حين أرد السلام على شخص أعرفه ويسير معنا في نفس الاتجاه.

وصلنا إلى الساحة وكان المشهد مهيباً، الآلاف مجتمعون في الساحة، شباب يربطون الأعلام فوق جباههم العالية، كهول مرتبكون يتفرجون وبعضهم يبكي، وعدد قليل من النسوة اللائي قدمن ليضاهوا شجاعة الرجال بل ويتفوقن عليها، بدأت بعض اللافتات في الارتفاع على جدران الأبنية المحيطة، وأزيلت بعض صور الطاغية. كنت واقفاً أنقل نظري من مشهد لآخر، من وجه لآخر، من حر لآخر، كنت مصدوماً.. لكنها صدمة لا يمكن وصفها بالكلام، كنت أحبس دمعة كادت تهرب من عيني، إلى أن سمعت أصواتاً تناديني: "ليش واقف على الرصيف، نزيل شو لسا خيفان.. عيب عليك يا زلمي". كانوا مجموعة من الأصدقاء، أزالوا آخر الأحجار في جدار خوفي في أرض الواقع، وجعلوني ثائراً متواضعاً فعلاً وقولاً، وليس فقط بالشعارات والكلام.

"الشعب يريد إسقاط النظام".. "ما في للأبد.. ما في للأبد.. خلصت أيامك بشار الأسد".."اعتصام اعتصام.. حتى يسقط النظام"، هتافات كانت تدوي ويتردد صداها في حمص، التي فرغت شوارعها وتجمَّع أهلها معاً، بكل شرائحهم الاجتماعية والثقافية، من كل الطوائف، من المدينة وريفها، كان يوماً للوحدة، يوماً لولادة جديدة لحمص، أعاد لها كرامتها وتضامن أهلها بعضهم مع بعض بعد أن تفرّقوا اجتماعياً، في ساحة حمص وقف ابن الخالدية مع ابن الإنشاءات، وسكان باب السباع مع سكان الغوطة والحمراء، تلك كانت حمص الحقيقية.
مع مرور الوقت، بدأ الجمع يتعاظم مع توافد الناس، فكل دقيقة من الاعتصام كانت تمنح الشجاعة لمن هم في بيوتهم، وقف علماء الدين وألقوا كلمات ليخففوا من توتر الناس واحتقانهم، ووقف رجال الثقافة والأطباء ليتحدثوا، فكان خطاب الروح والعقل معاً لمن هبّوا لنصرة الشهداء وأهلهم، وقفت أم أحد الشهداء وقالت لعشرات الآلاف: "ابني ما مات، أنتم أولادي".

بين ساعة وأخرى، كان أحد رجال الدين يقول: "يا شباب، ارجعوا لبيوتكم، وسنرفع مطالبكم للمسؤولين، ولدينا رسالة لكم بأن الاعتصام سيفك بالقوة بعد ربع ساعة..."، فكانت الحشود ترد بمزيد من الهتاف والإصرار على البقاء، صلى عشرات الآلاف معاً صلاتي المغرب والعشاء في لحظات مهيبة، بكى فيها الجميع وفاءً لروح الشهداء، وفرحة بموقف لم يتخيّله أشد المتفائلين.
ثم بدأت المؤسسات تشارك إلى جانب الأفراد في الاعتصام، فجلبت الخيام لساحة الاعتصام، وتم توزيع الطعام والشراب على المعتصمين، وكانت "قفشات" أهل حمص حاضرة رغم حساسية الموقف وخطورته، فردد البعض "شو هالاعتصام 5 نجوم" كما بدأ هتاف جديد رداً على إعلان الحكومة الجديدة على وزن هتافات ليبية " طز مرة ثانية بالحكومة الثانية"، واستمرت دعوات الخطباء بين حين وآخر لفك الاعتصام لكنها لم تعد تلق أي اهتمام، على اعتبار أن كل الإنذارات السابقة لم تنفَّذ، وذلك كان ما أصاب من استمر في الاعتصام بمقتل.

ومع اقتراب منتصف الليل، لم يُلحظ أي تواجد نسائي في الاعتصام، كما بدأ العدد بالانخفاض تدريجياً حتى وصل إلى نحو ألفين فقط حوالي الواحدة صباحاً، وكنت بين من غادر الاعتصام على أمل العودة بعد ساعات لبدأ يوم جديد.

الساعة 1.50 فجر يوم الثلاثاء 19-4-2011، بدأ الهجوم البربري من قوات النظام وشبيحته نحو المعتصمين في ساحة الساعة، إطلاق نار كثيف بشكل جنوني، حوّّل الساحة بل والمدينة إلى جحيم، إذ سمع دوي الرصاص في كل أرجائها، وكان الهجوم من محوري نادي الضباط ومبنى المحافظة ومجلس المدينة، ثم سرعان ما أصبح من كل الجبهات، واستمر إطلاق النار ما يقارب ثلاث ساعات وكان يستهدف مَن كان مختبئاً في محيط الساعة من المحاصرين في المداخل والشوارع الفرعية، ولم يهدأ إلا بعد آذان الفجر الذي لم يرفع في معظم المساجد المحيطة بالساحة. نهاية دموية، ليوم تاريخي أعاد رسم صورة حمص، وغيَّر مفاهيم أهلها ووضعهم في مسار الثورة، حتى أصبحت مدينة ابن الوليد عاصمة لها.

اعتصام الجلاء أو اعتصام الشهداء أو اعتصام حمص الكبير أو اعتصام الثورة، كلها أسماء يرددها الناس لذلك الحدث، لكن الأكيد أنه لم ينته في نفوس أهل حمص وكل ثائر في أرض سورية الطاهرة، فاستمرار الثورة وانتشارها، وصمود الناس وإصرارهم وتضحيتهم التي تحدت النار والدمار، كل ذلك أثبت دون أي شك أو لبس أن شعار "اعتصام اعتصام حتى يسقط النظام" ساري المفعول حتى الآن.

سوريا بدا حرية بالاتفاق مع زمان الوصل
(130)    هل أعجبتك المقالة (147)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي