أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

صورة الآخر في الصراعات الراهنة و دلالة الديمقراطية السائدة...مازن كم الماز

في الصراعات لا بد من تمايز ضروري بين الصديق و العدو تمايز جذري قاطع غير قابل للحل إلا بالمواجهة المباشرة..هناك مستويان لهذا التمايز أولهما موضوعي تحدده القوى الفعلية على الأرض و مصالحها و آخر عليه أن يبرر المستوى الأول هو خطاب موجه نحو الذات أساسا بما في ذلك الجماهير التي هي مادة هذا الصراع الضرورية..هنا مثلا كانت الأنظمة الديكتاتورية تدعي أن "الوحدة" القائمة على فردانيتها المطلقة عامل قوة و محفز لتحديث بنية المجتمع و وعيه و استعملت في تبرير ذلك صورة العدو التقليدي إسرائيل التي شكلها خطاب هذه الأنظمة ككتلة مصمتة متماسكة معادية بشكل نهائي و شيطاني و ما يزال وجود هذا العدو الهمجي قادر على استفزاز حالة عميقة من رفض الآخر و الإصرار على إلغائه..في حالة أخرى فالمواجهة اليوم بين القيادات الطائفية اللبنانية و بين قوى أصولية من فتح الإسلام إلى قوى تابعة للقاعدة مباشرة هي مصدر مأزق حقيقي لهذه القيادات التقليدية بسبب منافسة القوى الأصولية لها على تمثيل ذات المرجعية و على ذات القاعدة الجماهيرية في مواجهة الآخر الطائفي الذي كان عليه هنا أن يقوم بوظيفة الآخر الشيطاني أو الهرطقي , هذا التنافس هو ما فرض على القيادات الطائفية التقليدية في محاولة للتغلب على غياب التمايز بين خطابيهما بل و الاتكاء على ذات المرجعية المرتبطة بفردانية المقدس أن تشدد على ارتباط هذه القوى الأصولية بطرف خارج المرجعية بل و معادي لها كالنظام السوري..الصورة التي تنسب للآخر هنا ضرورية لتبرير عملية إلغائه و تصوير الجدل السياسي و الفكري ضده على أنه ذا اتجاه واحد يشترط إلغاء هذا الآخر دون أي مخرج آخر و بالتأكيد دون أي إمكانية للتعايش معه..هذا يتركك محشورا بين خطابات مفصلة سلفا على مقاس قوى و قيادات خاصة و يضطرك إلى الاختيار بينها دون أي هامش متاح للنقد أو للرفض..أن تغامر اليوم بانتقاد 14 آذار يعني أن تستدعي اتهامات بالعمالة للنظام السوري و الإيراني أما أن تنتقد حماس أو المقاومة العراقية أو حزب الله يعني أن تستعد لاتهامات بالعمالة لأمريكا و إسرائيل , هكذا تمارس لعبة التخوين و التكفير بسهولة و يسر قادرة على إخراس أية محاولة لفهم ما يجري خارج إطار الموقف السياسي السائد..في ظل هذه الشكل من الجدال السياسي يمكن ببساطة ملاحظة أن السلطة في كل مكان تقريبا اليوم تقوم على فردانية القوة الموجودة في السلطة و وجود هامشي غير مؤثر للمعارضة بما يعني غياب أو تغييب بديل جدي عن السلطة القائمة..إن وصول بديل "معارض" إلى السلطة يحتاج هنا إلى عملية تغيير جراحية حادة لغرض إقامة فردانية جديدة..هذا ما شاهدناه مثلا في روسيا يلتسين و أوكرانيا و جورجيا و لبنان و العراق و حتى في حالة سلطوية مشوهة كالسلطة الفلسطينية أو تيمور الشرقية حيث لم يكن من المسموح ظهور معارضة قادرة على أن تشكل بديلا واقعيا عن السلطة القائمة و حيث يفرض منطق التخوين و التكفير على حالة هذه المعارضة..يجب هنا أن نلفت الانتباه لحالة تأليه السلطة في الخطابات السائدة حيث يمكن ملاحظة كم الاستخدام الهائل لألفاظ مرتبطة بالمقدس حتى من قادة العالم "الحر" أو قادة فتح العلمانية على التوازي مع استخدام ألفاظ و معاني مرتبطة بالمقدس في تشكيل صورة رأس النظام أو القيادات السياسية أمام الجماهير بغض النظر عن الخطاب المعلن للنظام أو هذه القيادات كمثال أتاتورك و بورقيبة و ستالين و حافظ الأسد و صدام حسين عداك عن قادة كبشار الأسد مثلا..حتى الأنظمة الليبرالية في أوروبا و أمريكا تقوم على غياب البديل حاليا و حتى عندما وجد بديل فعلي تمثل يومها في الشيوعية واجهته بذات الممارسات التهميشية و الإقصائية و "التخوينية" التي واجهت أية سلطة فيها خصومها و على الطرف الآخر كان أداء الستالينية رهيبا في مطاردتها ل "أعداء الشعب و عملاء الامبريالية"..كانت أدوات الصراع بين الطرفين همجية استخدمت الانقلابات العسكرية و المجازر و التأثير في الرأي العام و الكذب و تزييف إرادة الشعوب سواء في هنغاريا 1958 أو إيران 1953 أو تشيكوسلوفاكيا 1968 أو تشيلي 1973 و قهرها بالحديد و النار أو بالخداع و التزوير, لقد قتل يلتسين الديمقراطي مثلا من الشيشان أكثر مما فعله الديكتاتور ستالين وسط مؤامرة صمت الغرب "الحر"..لم تعن إرادة الشعوب أي من الطرفين كان النصر وحده هو الغاية و بررت في سبيله كل الوسائل , كان الآخر شيطانا لا بد من تدميره الساحق..استخدم النظام الإيراني هذه العبارة مباشرة في توصيفه لأمريكا في خلط مقصود بين الأبعاد الثقافية و السياسية و الحضارية للغرب , يمكن مقابلة هذه الصورة الشيطانية عن الآخر بصورة الفلسطيني في الخطاب الإسرائيلي أو صورة الملون في الرؤية الأوروبية البيضاء للعالم..و لا يقتصر هذا على الآخر-الخارج بل يطول بشكل ضروري أيضا "المشاغبين الفوضويين" في الداخل , ما يتغير هنا فقط هو العنوان العريض دون أن تتغير الصورة الشيطانية أو نسق الاتهامات المصوب لهذا الآخر-الداخل من المكارثية إلى الستالينية إلى الأنظمة القوموية إلى القوى الأصولية..لم يمكن في أي مكان إدارة جدال سياسي "ديمقراطي" مع أية معارضة جدية خارج محرمات التكفير و التخوين و استخدمت الجماهير فقط كمستودع لضحايا و شهداء هذه المواجهات..هناك عالميا إصرار أمريكي على فردانية سيطرتها السياسية و العسكرية و الاقتصادية حتى في مواجهة حلفاء الأمس و أصحاب الخطاب السياسي الاجتماعي ذاته رغم أن الإدارة الأمريكية تدرس ضم قوى مختلفة و منها "أصولية معتدلة" إلى مشاريعها الإقليمية و لكن في إطار هذه السيطرة الأمريكية الكونية الصارمة و هذا ما اكتشفته بعض هذه القوى ممنية النفس بتغير في موازين القوى مع الأنظمة الديكتاتورية..السؤال هنا يكتسب أهمية بالغة مع صراعنا مع أنظمة ديكتاتورية أول همها هو تأبيد تسلطها و نشر اليأس من إمكان التغيير باتجاه مجتمع مشاركة ديمقراطي و واقعية هذا البديل الديمقراطي..السؤال هنا هو عن صيغة السلطة و علاقتها بالمجتمع و ماهية هذا المجتمع أصلا و تحديد المطلوب من موضوعة البديل , الجواب يرتبط هنا بموقع من يحاول الإجابة..فبالنسبة للناس حتى الآن الفرق غير جوهري بل و هناك حالة قرف عدمية من الحالة السياسية السائدة خارج المحفزات الطائفية أما القوى التي تتوهم أنها تشكل البديل القادر على توفير استقرار يقوم على فردانيتها فهي لا تملك مشكلة مع هذه الصيغة للبديل أما القوى التي يتوقع أن تكون في موقع المعارضة المهمشة فهي من يحاول تعديل هذه الصيغة بحيث تستدعي تدخلا مؤثرا للخارج يوازن فردانية القوى الموجودة أو الطامحة إلى السلطة أو البحث عن صيغة تسمح لها بفعل مؤثر في خيارات السلطة القائمة أو البديلة..هذا هو مضمون الصراعات القائمة داخل النخب السياسية المؤثرة في كل مكان سقطت فيه الصيغة الديكتاتورية للسلطة التي تمكنت من إبقاء هذه الصراعات كامنة بقوة القمع الذي سلط على الجميع..هنا يحق لنا أن نتساءل عن ماهية الديمقراطية في نهاية الأمر عن علاقتها بمهمة بناء عالم أفضل لشعوبنا لكل المهمشين..نحن الذين توقعنا أن تكون مهمة التغيير الديمقراطي الأولى هي أنسنة السياسة و السلطة و إعادة الاعتبار للإنسان في مواجهة عسف السلطة أي سلطة..نحن الذين أردنا الخروج من دائرة تكفير أي طرف لآخر كأساس للجدل السياسي أن يتحول الصراع إلى حالة تكسر إدعاء الجميع لقداسة فوق الإنسان أولا و أخيرا و تستوعب كل ما ينتجه الواقع دون أن يكون لأحد حق الاعتراض عليه أو حق الإصرار على تغييره..إن أنسنة السياسة تعني أنسنة صورة القائد و في نفس الوقت أنسنة الآخر سواء أكان معارضا أو حتى عدوا..لا يعني هذا فقط تغليب القيم الإنسانية بل أيضا أن العالم و التاريخ هو نتاج فعل بشري خاصة و أن الإنسان اليوم يتحرر و يتحول بالفعل من كائن منفعل إلى كائن فاعل قادر على التغيير و يعزز أكثر جدارته بما يسمى القيم الإنسانية..إن البحث في دلالة الديمقراطية بالنسبة للمهمشين لشعوبنا للبشر العاديين قد يتطلب العودة بعملية الحفر بعيدا إلى الفكر الذي أنتج الديمقراطية ربما إلى رومانسية جبران خليل جبران و ربما شيلي و بايرون التي أعادت اكتشاف الإنسان و أنسنت الإله في صورة بروميثيوس ( فنحن حتى الآن مشغولون بالسلطة و الفكر بعيدا عن مرجعية الإنسان , ربما علينا أن نبدأ من تأسيس و تكريس حضور الإنسان في المشهد السياسي و الفكري ) و ربما إلى بناء فكر يساري جديد يتجاوز تسلطية الستالينية و يعود باليسار إلى التعبير عن البشر المهمشين أو اجتهادات دينية جديدة تقودنا إلى أنسنة السياسة و تجعل الإنسان في مركز الكون بالفعل كما حاول المعتزلة ذات يوم و تسخر له أولا السلطة و مؤسساتها "القمعية و القانونية"....

(185)    هل أعجبتك المقالة (185)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي