أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

النفط مادة في سياسات الهيمنة الإمبريالية ... د عزمي بشارة

يتعامل باحثون مع النفط كحتمية تحدد وتحكم السلوك السياسي، بما فيه الحرب، مثل قانون. لا شك أن النفط هو الدافع والمحرك الرئيسي للسياسات الامبريالية في المنطقة العربية. ولكنه لا يصنعها بل هي التي تصبغه بلونها. الامبريالية وسياسات الهيمنة تدفع بمسألة الطاقة ولكنها هي التي تحدد شكل التعامل مع هذه القضية.
يشخص مايكل كلير (مجلة «نيشن» عدد 5-12 تشرين الثاني/ نوفمبر) المرحلة كـ «نهاية مرحلة البترول petroleum age وبداية مرحلة عدم الكفاية insufficiency. وهو يكتب أن الولايات المتحدة باتت تتصرف على هذا الأساس معدداً مشاريع أبحاث الطاقة البديلة، واستحضار مصطلح «سوائل» liquids للاستخدام بدلاً من نفط، واندفاع الدول للاستثمار في ابحاث «السيلولوز» وفي صناعات تحويلية لنبتة الذرة إلى كحول إثيلي، مما يهدد بقية العالم برفع اسعار الخبز وغيره من المنتوجات.
ومع نمو اقتصادي عالمي بنسبة 4.5 في المئة، يلعب فيه اقتصادا الهند والصين دوراً رئيسياً، سوف تحتاج الدورة الاقتصادية العالمية لرفع إنتاج النفط بـ2.5 في المئة سنوياً لملاقاة زيادة الطلب. يستهلك العالم حالياً 86 مليون برميل من النفط يومياً، وسيستهلك 96 مليون برميل يومياً عام 2012. بعدها ستبرز صعوبة هائلة في زيادة الإنتاج لسد الحاجة. وحالياً يتلاقى العرض والطلب من دون احتياط للتخزين، وهذا سبب رئيسي لارتفاع أسعار النفط، فكل ما يضخ يجد له مشترين فوراً، والطلب يفوق الضخ. كما أن العالم بدأ يدرك حجم احتياطي النفط المتبقي وحدوده.
ولا بد أن يكون مصدر هذا الارتفاع المطلوب في الدول التي تملك غالبية احتياط النفط في العالم. ويقع معظمها في مناطق غير مستقرة بنظر أميركا، أهمها الشرق الاوسط وشمال أفريقيا وبعض الدول الأفريقية. وللوصول الى زيادة كهذه، خاصة مع نضوب حقول كاملة في دول الأوبك، يتطلب الأمر فتح حقول جديدة وأعمال تنقيب وبنى تحتية تحتاج إلى استثمار مئات البلايين من الدولارات، وهي دولارات قلقة غير مطمئنة.
وإضافة الى القدرة على الاستثمار ترى الولايات المتحدة انها الدولة الوحيدة القادرة على تأمين تدفق النفط الى الدول الصناعية بالردع وبالتدخل العسكري المباشر، الأمر الذي برره مبدأ كارتر منذ العام 1980، عندما أكد بعد الثورة الإيرانية التزام الولايات المتحدة الاستراتيجي بضمان عملية تدفق النفط من الخليج الى اسواق الغرب حتى لو تطلب الأمر استخدام القوة. وقد استند بوش الأب إلى هذا المبدأ في حينه للتدخل في حرب الكويت، وهو المبدأ الذي برر أصلاً إنشاء قوات التدخل السريع وتأسيس قيادة المنطقة الوسطى.
الطفرة الاقتصادية وتزايد الطلب على النفط في فترة شح الطاقة والبحث عن «سوائل» مولدة للطاقة وارتفاع أسعار النفط المطرد تقوي ميل الولايات المتحدة للجوء إلى حروب النفط، أو التدخل المباشر للسيطرة على مصادره. وهي لا تنتظر أن تصبح الصين قادرة على تدخل كهذا، وذلك لحاجتها الى هذه المصادر أكثر من أميركا. وأميركا ترصد التحولات في السياسات الخارجية الصينية والروسية. وكنا قد تطرقنا الى حجم التسلح الأميركي وميزانيته في المقال السابق.
وليس صدفة أن أياً من المرشحين الديموقراطيين للرئاسة في اميركا لم يعلن أنه سوف يسحب الجيش الاميركي من العراق حتى العام 2012، أي خلال فترة رئاسته إذا فاز. لقد تم تبرير الإقامة الأميركية المديدة في كوريا والبالغة من العمر خمسين عاما بالتمام والكمال بخطر كوريا الشمالية. وربما سوف تبرر هذه الإقامة في العراق بوجود إيران والخطر الإيراني. ولكن مع وصول سعر البرميل إلى اكثر من تسعين دولاراً، ومنذ ان وصل الى الثمانين دولاراً لم يبق سياسي في أميركا يعاني من التردد والحرج بشأن النفط وتأمينه. لقد باتت حماية مصادر النفط، اي السيطرة عليها، مسألة إجماع يخترق الأحزاب ويحظى بشعبية.
تقوم شركات التعهدات الأميركية الكبرى ببناء خمسة قواعد عسكرية دائمة من النوع المتطور جداً (سوبر قواعد) خارج المدن في العراق. تتسع كل منها لعشرين الف قاطن. انها في واقع الحال ضواح اميركية محصنة في وسط الصحراء وبمطار مشغول جدا. وهي مزودة بكل ما يلزم الاميركي المتوسط، كما يتخيله البنتاغون وشركات المقاولات، من مطاعم الأكل السريع حتى ملعب الميني غولف ودار السينما. وتتسع هذه القواعد سوية الى مائة الف جندي تقريبا مجهزين للتدخل الخاطف في اي مكان في العراق كقوة ردع او قمع من دون ولوج شوارع أي مدينة، ومن دون احتكاك يومي بالعراقيين. هذا بالاضافة إلى سفارة أميركية تبنى في بغداد على نمط مبنى البنتاغون، كفيلة بأن تؤشر لمقاصد بوش وجدية ما يقوله في أروقة البيت الأبيض عن بقاء في العراق على نمط كوريا وعلى نهج وزير دفاعه روبرت غيتس.
إذا كان هذا صحيحا فيبدو أن كل ما نشر وينشر عن الغباء وسوء التدبير الأميركي إنما كان سابقاً لأوانه. فاذا تولت اميركا حماية حكومة ضعيفة في عراق مفكك من دون ان تسمح بأن ينحل فعلاً، ومن دون ان تسمح بأن يتوحد، تكون قد انجزت الظرف المثالي لاستمرار بقائها في العراق لغرض السيطرة على النفط: انفصال كلي لكردستان يغضب تركيا، وانفصال كلي للجنوب ينشئ قاعدة تأثير إيرانية، أما انفصال الوسط فقد يتحول إلى قاعدة لـ «القاعدة» كما يتوقع المعلقون الأميركيون. أما وحدة العراق فتلغي الحاجة للوجود الأميركي. من هذا المنظار وبأثر رجعي لا تبدو خطوات مثل حل الجيش واجتثاث البعث مجرد أخطاء تنم عن قلة تجربة، بل هي حلقات في خطة محكمة. هذه قراءة بأثر رجعي تنتشر حاليا بين خبراء مثل جيم هولت من «نيويورك تايمز» وتوماس باورز («نيويورك ريفيو أوف بوكس» 27 أيلول/ سبتمبر). وبموجب هذه القراءة، فإن رغبة تشيني بشن حرب على العراق نشأت في فترة رئاسته لطاقم المهمات لقضايا الطاقة من العام 2001، أي أنها ولدت كاستنتاج من أزمة الطاقة بصدد ما ينبغي عمله بهذا الشأن. والأمر الوحيد الذي يجعل هؤلاء الخبراء يشككون في نظرية المؤامرة هذه رغم أنهم ألفوها بأنفسهم هو أن النتائج خرجت تماما كما أريد لها أن تكون، أي أنهم يشككون بنظريتهم بأنفسهم لأنها محكمة أكثر مما ينبغي.
هذا رغم أنهم يعرفون أن ألان غرينسبان محافظ البنك المركزي، الأسطورة بنظر الاقتصاديين، كتب في مذكراته: «إنني حزين لأنه من غير المريح الاعتراف بأن حرب العراق كانت غالبا من أجل النفط».
ويبدو السيناريو الأميركي المتفائل هكذا: ستساعد الولايات المتحدة بسيطرتها المباشرة على النفط العراقي على قدر من التحكم بالأسعار، ولعب دور مباشر داخل الأوبك، وسوف تقيد إيران اقتصادياً من ناحية قدرتها على الصرف على التسلح خاصة أن 80 في المئة من مصاريف حكومتها يمولها العائد من النفط، وسوف تحررها من الحاجة الى الوجود العسكري في مناطق النزاع، وسوف تمكنها من إدارة استثمار أمين يدر ارباحاً خيالية لا تقدّر حتى مقارنة بنفقات الحرب في العراق.
هذا حلم من يؤمن بسحر السيطرة العسكرية على أكبر احتياطي نفط في العالم. احتياطي النفط المعروف في العراق 115 بليون برميل. ويسود اعتقاد ان الاحتياطي الأكبر غير معروف، فبسبب الحصار الطويل يعتبر احتياطي العراق شبه مجهول، فالعراق اقل بلدان النفط تعرضا للتنقيب. في العراق الفا بئر نفط، في حين أنه في تكساس وحدها حفر حوالي المليون. التقدير ان احتياطي النفط العراقي الفعلي يتراوح بين 200 و300 بليون برميل. إذا صح ذلك، ينتج ان القوات الأميركية تجلس حاليا على ربع احتياطي النفط في العالم.
حكومة اقليم كردستان وقعت وحدها على اتفاق لاستغلال النفط في الإقليم مع شركة «هنت» في تكساس التي يرأسها حليف وصديق شخصي لبوش. أما بالنسبة لبقية العراق فقد أعدت الادارة الاميركية اقتراح قانون تستعيد بموجبه الحكومة العراقية استغلال 17 حقل نفط من مجموع ثمانين، أما البقية فتقطع عمليا لشركات اجنبية لمدة ثلاثين عاماً، وهي غير مجبرة على استثمار جزء من العائد في الاقتصاد العراقي.
تبدو الخطة محكمة فعلاً. ولن نقترح كما يعظ كتاب اليسار في اميركا أن يكون العلاج بدل الحروب هو التوفير في استخدام النفط لغرض الحفاظ على البيئة ولغرض خفض سعره، لاننا نعلم ان هذه طوباوية غير ممكنة التحقيق وتعتمد على وقف النمو في اقتصاديات رأسمالية متنافسة قائمة على النمو. ولكن السؤال المطروح هو التالي: ألا يبدو أن التدخل الاميركي والمقاومة وعدم الاستقرار كانت حتى الآن من أسباب ارتفاع اسعار النفط؟ يبدو ذلك فعلا. ومن هنا نشتق سؤالا آخر: أليس من الممكن التوصل الى اتفاقيات مصالح مع الدول المنتجة للنفط، والتي تنوي ان تبيع نفطها لا ان تشربه، تضمن بموجبه تدفق النفط الى الدول الصناعية؟ طبعا ممكن. وحتى مع صدام حسين كان التوصل الى اتفاق كهذا ممكنا. وأخيراً، كي تقوم اميركا بالسيطرة على بلد، اليس عليها ان تضمن حداً أدنى من الاستقرار للسيطرة عليه؟ نعم. ولكن القوة العسكرية الاحتلالية لا تضمن الاستقرار، ولا ينفع التفوق الأميركي عندما تنفلت طاقات المجتمع الهدامة في غياب الدولة.
الامبريالية تدير الأزمة بأسلوب امبريالي. ولكن يمكن إدارة سياسات النفط وشحه بشكل مختلف. ولا بد من تدخل قدر كبير من الغباء وسوء الحساب. ولا شك ان الرغبة بالسيطرة على منابع النفط قائمة، وأن الشركات الأميركية من انتاج السلاح وحتى متعهدي الطعام الجاهز للجنود، ناهيك عن شركات المقاولات، استفادت وتستفيد من الحرب. ولكن هنالك عوامل اخرى فعلت فعلها، منها ما هو ايديولوجي إلى درجة العمى عن رؤية واقع يجهله حاملوها أصلا، ومنها العامل الإسرائيلي المطروق بكثرة والمتعلق بعملية صنع القرار الأميركي في ما يخص هذه المنطقة. النفط نعم، ولكن التعامل مع النفط بسياسات هيمنة امبريالية وجهل، وتأثير إسرائيل والإيديولوجيا والآراء المسبقة تتفاعل جميعها لتنتج مستحضرات بوش القاتلة.

الحياة
(121)    هل أعجبتك المقالة (120)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي