أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

مسلسل باب الحارة يعيد الاعتبار لقيمنا العربية الأصيلة

تابع المشاهدون العرب خلال شهر رمضان مسلسلا تلفزيا تحت عنوان " باب الحارة 2 " تأليف كمال المرة و إخراج بسام الملا و قد تطوّر تعلقهم بحلقات هذا العمل حدّ خلوّ الشوارع في فترة عرضه في كل من فلسطين و الأردن، بل إن العديد من التحقيقات أكدت أنه أكثر المسلسلات مشاهدة في الوطن العربي بما في ذلك تونس.

نحن هنا لا نريد أن نعتمد على ارتفاع شعبية هذا المسلسل كمقياس للحكم بإيجابية عليه. بل إننا سننطلق من القيمة الفنية العالية لهذا العمل و نحاول أن نطرح السؤال التالي : ما الذي جعل المواطن العربي يتفاعل بإيجابية كبيرة مع هذا المسلسل... هل بسبب الأداء الرائع للممثلين، أم بسبب الديكور المتناسق الذي يدغدغ حنيننا إلى ماضينا المجيد، أم بسبب الحبكة الدرامية المشوقة؟

الحقيقة أن كل هذه العوامل ليست سوى عنصرا مكملا لمسألة جوهرية لفّت حولها جميع المشاهدين و هي الاعتزاز بالقيم العربية الاسلامية التي تعرض لها المسلسل. لقد رأى المشاهد في هذا العمل صورته الأصلية الرائعة و لمس معدنه الناصع كما اطلع على ماضيه المجيد و ما حمله من قيم عالية تناغمت فيها الشجاعة مع الشهامة و الرجولة مع الكرم و العزة مع الوفاء. لقد انبهر بجذوره فجعله ذلك يعتز بنفسه و يفتخر بأصله. إن هذه القيم العالية التي قدمها له المسلسل في طبق فني رائع هي التي شدت انتباهه و نالت إعجابه. فقد توصل المخرج إلى أخذ المشاهد من يده ثم شرع يتجول به في الزمن في أزقة ثلاثينات القرن الماضي ونزل به إلى جذوره العريقة ليذكره بمكوّنات هويّته و ما تحتويه من خصال أمّنت في وقت سابق وحدة و صلابة و عراقة هذه الأمة.

و بقدر ما نجح المسلسل في تحريك ذاكرة فئة الشيوخ من المشاهدين بقدر ما استنفزّ لدى الشباب حب الاطلاع و رغبة استكشاف خصال و قيم كانوا يتصورون أن الجمع بينها من محض الخيال. لقد فوجئ جيل اليوم بحقيقة أن الكرم و القناعة و الصدق و الوفاء و النبل و الحياء و الصبر و الاتزان و الشجاعة و الاحترام و غيرها من الخصال الحميدة كانت بالفعل تطبع العلاقات الاجتماعية في عصر الجدود.

 

النظرة المشوّهة لقيمنا العربية الأصيلة

حين دعانا بسام الملا إلى التأمل في قيمنا من منظور خال من سموم الثقافة الغربية تحصلنا على صورة ناصعة و رائعة. و لعل الحقد المتنامي على القيم الغربية الناتج عن افتضاح أمرها بعد أن تبين أنها الأرضية المذهبية للجرائم الفظيعة التي يرتكبها الأمريكان و الصهاينة في فلسطين و العراق هو الذي كان وراء وضوح ذهن المشاهد و نقاوة منطلقاته. فقد استطاعت المقاومة الفلسطينية و خاصة العراقية أن تزيح ثقافة الغرب من المراتب العليا التي بلغتها بالمغالطات و أن تضعها في الموقع الذي يليق بها، فلم تعد القيم الغربية هي العدسة التي نرى من خلالها و نقيّم بواسطتها كل قيمنا و ثقافتنا.

إن دخول المقاييس الغربية في عملية تقييم مكونات قيمنا هو الذي أحدث تشويهات في العديد من الأحكام و الاستنتاجات. فالغرب الذي ادعى لفترة طويلة أن قيمه تتميّز و تتفوق على قيم الأمم الأخرى مستندا على اكتسابه ناصية التطور العلمي و التكنولوجي، سعى بكل الوسائل إلى أن تكون قيمه هذه هي المرجع الرئيسي الذي يقع الاحتكام إليه في تحديد سلامة أو أخطاء القيم الأخرى. فكم اعتبر صدقنا سذاجة و طاعة الأب خنوعا و الحياء ضعفا و الشجاعة تطرفا و الدفاع عن الشرف تعصبا و حزم الآباء تعسفا...

لقد سقط في فخاخ النموذج القيمي الغربي العديد من المخرجين و الروائيين الذين قدموا لنا صورا قاتمة عن العلاقات الاجتماعية العربية الاسلامية ونعتوها بشتى الأوصاف المشينة كالتسلط و القهر و خنق الحريات الفردية و قدموا لنا القيم الغربية على أنها مصدر الصفات الانسانية العالية.

لقد قدم كل من بسام الملاّ و كمال المرّة صورة ناصعة عن العلاقات الاجتماعية داخل الحارة من منظور الانسان العربي المعتز بجذوره و أصالته و هما لا يخفيان في حوار معهما في إحدى القنوات الفضائية موقفهما من القيم الغربية التي تشكل حسب تأكيدهما أهم أدوات الغزو الثقافي في وطنا العربي. هذه المنطلقات هي التي جعلت المخرج يقف عند حقيقة هامة و هي أن الأجيال التي سبقتنا تلك المشبعة بالقيم العربية الاسلامية كانت تحمل مخزونا هائلا من الصفات النبيلة، و بمجرد نبش هذا المخزون طفت إلى السطح صورا رائعة عن صفات أهل الحارة، فاللحمة و التضامن هما أهم ما يميز العلاقات فيما بينهم و ما كان لهذه اللحمة أن تتواصل و تصمد أمام عواصف المتآمرين و المفتنين لو لم تنصهر في داخلها صفات الأخوة و التضامن و الكرم و الوفاء و الصدق. و ما كانت هذه الحارة تقدر على حماية نفسها من الغرباء و الدخلاء لولا صفات الشهامة و البطولة و الشجاعة التي كان يتحلى بها مسيّروها، و ما كانت عائلات الحارة تستطيع الحفاظ على التماسك الذي شاهدناه لو لم ينجح قادتها في الجمع بين الحزم و المحبة.

إن كل هذه الصفات التي جعلت من الحارة خلية منسجمة يبحث كل أفرادها عن سعادة بعضهم هي نفسها التي جعلت أهلها يحملون هموم أخوانهم في فلسطين و يدفعون الغالي و النفيس من أجل المساهمة في تحريرها.

 

الأمة تحمل مواصفات وحدتها

لقد انطلق " مسلسل باب الحارة 1 " السنة الفارطة و كانت فكرته الأساسية التي بني عليها هي صفة الصدق مثلما تعبر عن ذلك أغنية الجينيريك " اللّي يحلف يمين كاذب يا ويلو من الله ". أما في الجزء الثاني فقد تعددت القيم و تنوعت الأحداث، و رغم هذا التنوع و ارتباط الفترة الزمنية بثلاثينات القرن الماضي فقد وجدنا أنفسنا و كأننا أحد أفراد أهل الحارة. سعى المخرج إلى التعرض للوضع الحالي من زاوية الماضي بل إنه حرص من خلال ابراز رفعة القيم العربية الاسلامية أن يثبت أن أمتنا لها في مخزونها كل مقومات النهوض و كل أدوات الدفاع عن نفسها و محاربة الأعداء و التصدي للغزو الثقافي و لمؤامرات التقسيم. لو تتبعنا بدقة مختلف حلقات المسلسل لتبيّن لنا أن الثنائية الرئيسية التي تمحورت حولها أحداث هذا العمل الدرامي هي الوحدة و التقسيم و كأن كاتب السيناريو لم تغب عن ذهنه لحظة واحدة مؤامرة تقسيم العراق كخطوة نحو إعادة تقسيم الوطن العربي. فالعائلات شهدت أسعد أيامها حين كانت متماسكة، و الحارة عاشت أروع الأحداث حين تجسدت وحدة الصف داخلها. بل إن قمة الأفراح هي التي عاشتها الحارة في الحلقة الأخيرة حين تحققت الوحدة بين حارة " أبو شهاب " و حارة " أبو النار " من أجل مواجهة الاحتلال. فكلما بلغت الحارة درجة متقدمة من وحدتها كلما كان إسهامها في الصراع الوطني ضد المحتل الصهيوني و الفرنسي و الانقليزي أكثر فاعلية. فالنزوع إلى الوحدة هو الذي جعل أهل الحارة يهجرون مشاكلهم الداخلية لينكبّوا على صراعهم ضد أعداء الوطن. و قد جسد تلك الفكرة " أبو عصام " حين قال " إن الوطن أغلى من أم عصام " معتبرا أن مصلحة الوطن تعلو فوق كل مصلحة شخصية مهما ارتفع شأنها.

مقابل ذلك أحس أعداء الحارة أن أنجع الوسائل التي تمكنهم توجيه الأحداث نحو تحقيق أغراضهم الدنيئة هي التقسيم. لقد تعمد المخرج إلى إبراز مخاطر التقسيم في كل مستويات البنية الاجتماعية للحارة، فبيّن كيف أن دس الفتن داخل العائلة الواحدة أخطر ما يعصف بها إذ يحوّل الأب القوي و رمز تماسك العائلة إلى فرد تتقاذفه المصائب و تحوله إلى كائن ضعيف لا حول له و لا قوة. كما بيّن بسام الملا أن خلاف العائلات و شجارها فيما بينها يزرع الأحقاد و يحدث الشروخ التي يطمح العدو إلى تغذيتها و تعميقها. أما الخلاف بين الحارتين و تغذية المعارك بينهما فذلك هو حلم الأعداء. و قد سمح لنا المخرج باكتشاف الـخـيـط الـرابـط بـيـن مـخـتـلف عـناصر الـتـقسيم و أدوات الفتن التي تمتد من " فريال " إلى "أبو جودة" (ممثل الاحتلال الفرنسي داخل الحارة) مرورا بـ "أبو غالب " و الجاسوس " سطيف ".

 

الخيانة أم الجرائم و ليست وجهة نظر

تقول كلمات أغنية الجينيريك " الخاين يا ويل ويلو من الله ". فالثأر من الخائن كان دوما المحرك الخفي للأحداث و قد صنّفه المخرج كأعلى مراتب الحسم. فالأحداث تتواتر و تتصاعد كلما اقتربنا من كشف أسرار الخيانة العظمى و صاحبها " سطيف " الذي قام باغتيال زعيم الحارة. و لا نبالغ إذا قلنا أن أقوى الحلقات هي تلك التي تعرضت إلى جريمة الاغتيال و رد فعل أهالي الحارة ثم تلك التي تناولت موضوع القصاص من الخائن.

لقد تعمّد المخرج إلى التشهير بالخيانة و صنفها كأم الجرائم إذ جعلها تختلف عن الجرائم الصغرى كإثارة الفتن، فسعى إلى توفير الفرصة لأصحاب تلك الجرائم لمراجعة مواقفهم و طلب الصفح ثم الالتحاق بصفوف أهل الحارة بينما كان حكمه قطعيا تجاه الخائن " سطيف " إذ نفذ فيه الزعيم الجديد للحارة " أبو شهاب " حكم الاعدام و احتفل الجميع بذلك الحدث.

في موكب خاشع وقف " أبو شهاب " أمام جثمان الزعيم الشهيد مقسما بأعلى صوته بأنه لن يهدأ له بال طالما لم يثأر من المجرم. و تذكرنا أحداث موكب دفن الزعيم بأحداث اغتيال و دفن الشهيد المجاهد صدام حسين. لقد أراد المخرج أن يذكرنا بالموقف العربي الأصيل من خيانة الوطن و اعتبر إهدار دم الخائن صفة الأوفياء للوطن و كأنه يرد على الموقف الذي يروجه الاستعماريون و عملاؤهم ضمن ثقافة الاستسلام و الذي يعتبر الخيانة وجهة نظر أو" الرأي الآخر".

و في الأخير نقول أن المخرج بسام الملا بدفاعه عن القيم العربية الاسلامية بعناية كبيرة يكون قد اختار له مكانا ضمن المقاومين بالفن. إن هذا العمل هو رد ساحق على الهجوم الامبريالي الصهيوني الذي يستهدف الهوية العربية الاسلامية باعتبارها الأرضية الفكرية لثقافة المقاومة فهذه الثقافة هي التي كانت وراء الانتصارات العظيمة التي تحققت إلى حد الآن في الساحة الفلسطينية و خاصة العراقية و التي يرتعد الأعداء خوفا من أن تتسرب إلى باقي الأقطار فتتهيأ عوامل تحرر و وحدة هذه الأمة العربية العريقة. 

شبكة البصرة
(126)    هل أعجبتك المقالة (127)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي