في البدء لا أريد أن يكون ماأكتبه هو ضد مسلسل باب الحارة(لا سمح اللـه) وأعارض الملايين من العرب في الوطن والمهجر، حيث أضحى باب الحارة حديث الشارع العربي وحديث الجاليات العربية والمسلمة في أوروبا وأميركا الذين وحدهم المسلسل في حين فشلت الأنظمة العربية في توحيدهم.؟
حقق هذا المسلسل السوري أعلى نسبة مشاهدة بين أبناء الشعب العربي، فما إن يقترب عقرب الساعة من موعد باب الحارة حتى تخلو الشوارع من المارة، ويسود الهدوء الأزقة والحارات والشوارع..
يعتبر باب الحارة من أميز ما قدم في الآونة الأخيرة على الفضائيات العربية من المسلسلات الدرامية وما يؤكد هذه المقولة هو حصوله على أكبر عدد من المشاهدين في شهر رمضان.. باب الحارة، قدم ميلو دراما اجتماعية مشوقة، موثقة في بعض تفاصيلها الحياتية واليومية على خلفية تاريخية ترتبط بأحداث سياسية، تمثل واقعاً يعيشه شخوص العمل ويتفاعلون معه كجزء لا يتجزأ من مرحلة تاريخية مهمة..
في العمل الكثير من الخيوط الدرامية والشخوص التي تمثل المجتمعات الشعبية الدمشقية عدا الخطوط الدرامية التي تمثل واقعاً سياسيا بحتاً ولعل نظرة متأنية تكشف عن سبب هذا الشغف من قبل المواطن العربي. فالمسلسل يعكس حالة اجتماعية وسياسية قريبة من المثالية البسيطة تلامس وتدغدغ فطرة وذاكرة المواطن العربي فالمسلسل يقدم نموذجاً لمجتمع متكامل (مجتمع الحارة) يتمتع هذا المجتمع بمكارم الأخلاق من كرم وشجاعة ونخوة وشرف وتدين وبساطة وتآلف ومحبة وتضامن، وهذه المعاني في الواقع هي مطالب فطرية لدى الإنسان العربي، ومن الممكن أنه افتقد الكثير منها في هذا الزمن الصعب.! أما الناحية السياسية، فسكان الحارة وحدة واحدة، لها زعيم أو عكيد حريص عليها محب لأهلها وهم يد واحدة على أعدائهم الذين يتنوعون بين الاحتلال الفرنسي والبريطاني( يقول أحد مشاهدي المسلسل من فلسطين:يشدني وجود الثوار الذين يمدون الشعب الفلسطيني بالسلاح لمقاومة الإنجليز وكأنهم يقولون لنا اصح يا شعب فلسطين) وطمع حارة أبو النار وحسدها لتضامن أهل الحارة، وهذا ما يتمناه المواطن العربي، الوحدة الحلم الذي يدغدغ مخيلة كل عربي من المحيط إلى الخليج. فأهل الحارة رغم الخلافات الداخلية التي وقعت بين أبو عصام وأنسبائه (العكيد أبو شهاب وأخوه أبو كاسم) ظلت هذه الحارة يدا واحده وظل أبو عصام فارسا من فرسانها رغم حاله المقاطعة التي عاشها مع أسرته، ولم يستطع رئيس المخفر أو الجاسوس اصطيف أو العكيد أبو النار اختراق صف الحارة.. وظلت الحارة تشكل رافدا للثوار في الشام وفلسطين. وهنا يبرز أمر على غاية الأهمية وهو أن مشاكل حارة الضبع كانت دائماً خارجية فالعدو الخارجي المتمثل بأبي غالب والعكيد أبو النار يغذي الخلافات الداخلية، ويستغلها لنشر الفرقة بين أهل حارة الضبع وهذا هو حالنا الآن، وقد يكون ذلك من أهم ما دغدغ عقل وفكر المواطن العربي.. فحالنا الآن تعصف بها الخلافات وتقاذفتنا ريح الفرقة، وحقق أعداؤنا بعض مآربهم في زرع بذور الشقاق بيننا.
وقد يكون سبب نجاح باب الحارة على حد قول عباس النوري (أبو عصام) لصحيفة الشرق الأوسط: (حب الناس للشام ولأهله، وصدق العمل هو الذي شدهم، بالإضافة إلى كون الشام تتمتع بسمعة طيبة عند كل العرب، والمجتمع الشامي مجتمع محبوب حتى الآن يقولون (هلي بدو يعيش عيشة هنية يأخذ واحدة شامية) وهذا المثل لم يأت من فراغ بل يدل على أن الشاميين يحبون الحياة ويعرفون كيف يعيشونها، وبالتالي العمل مثل البيئة الشامية بكل تفاصيلها وعاداتها، وما كان فيها من حب وعاطفة وإخلاص وصفات حسنة، وهذا بحد ذاته يجلب الناس لمشاهدة العمل من باب حب الاستطلاع والتعرف، ولمشاهدة كل ما نفتقر إليه في زماننا هذا من قيم نبيلة وجميلة.
ولكن هل أنصف ( باب الحارة) المرأة الدمشقية أو المرأة العربية ما دام هذا المسلسل اكتسح ساحة الفضائيات العربية.؟ وأعطاها حقها أو صور لنا جزءا من حياتها كما هي في تلك الفترة.؟ طبعا لا نستطيع أن ننكر التسلط الذكوري في بعض الحالات على النساء ولكن ذلك لم يكن حالة دائمة ومعممة على المجتمع الدمشقي، فلماذا عمم باب الحارة حالة التسلط الذكوري على المرأة الدمشقية، وابتعد عن ذكر دورها ومكانتها في المجتمع؟
المرأة في باب الحارة:
مسلسل باب الحارة فتح الجدل واسعاً حيال مدلولاته الاجتماعية لناحية موقع المرأة في المجتمع الدمشقي أو في المجتمع العربي برمته، ومفهوم الرجولة والعلاقة بينهما.. فنساء باب الحارة، يمثلن نماذج تسكن مخيلة شريحة من الرجال في الدول العربية، إذ إن جمالهن الخارجي والطاعة العمياء لرجالهن (الزوج والأخ) دون نقاش أو جدال، هما حلم هؤلاء الرجال..؟ وهذا قد يكون سبباً من أسباب نجاح المسلسل ذكوريا لدى هذه الشريحة. أما الشريحة الأخرى رغم متابعتها لهذا المسلسل فقد قامت قيامتها ولم توافق على تجسيد المرأة الدمشقية بهذه الصورة المهترئة، فقد أثار مضمون المسلسل سخطاً كبيراً في الكثير من الأوساط الاجتماعية، وخاصة النسائية الدمشقية التي اعتبرت أن المسلسل يكرس نموذج الرجل الشرقي المتسلط والمرأة الخانعة والخاضعة التي لا كلمة لها إلى جانب كلمة الرجل، بدلا من النموذج الصحيح والذي يظهر المرأة والرجل كعنصرين فاعلين ومتكافئين في الواجبات والحقوق، لكل منهما شخصيته المستقلة وآراؤه الخاصة، وخاصة أن العديد من السيدات الدمشقيات لم يزلن على قيد الحياة وعشن واقعا مغايرا للمرأة في باب الحارة، أو سمعن من أمهاتهن وجداتهن عن واقع المرأة الدمشقية المخالف لما صوره باب الحارة من أن المرأة هي للطبخ وتنظيف البيت وللطلاق والبكاء و.. هذا السخط النسائي على باب الحارة لم يشمل المرأة وحدها بل تضامن معه شريحة كبيرة من فئة الذكور..
وهنا تحضرني العديد من نماذج واقع المرأة الدمشقية، ولن أتكلم هنا عن نازك العابد أو ثريا الحافظ أو سلمى حفار الكزبري أو.. فكل تلك النساء قد حفظن تاريخهن المشرف عن ظهر قلب، إنما أريد أن أتحدث عن نماذج من نساء دمشق عشن في الفترة الزمنية لمسلسل باب الحارة ولم يرد ذكرهن في كتب التاريخ أو أي كتب أخرى إنما حفظتهن الذاكرة الشعبية التي كان من المفروض أن يدخل القيمون على باب الحارة لهذه الذاكرة الشعبية لرسم الصورة الحقيقية للمرأة الدمشقية وعدم الإساءة إليها.. أذكر أن زوجة عمي روت لنا أن إحدى قريباتنا(وهي من مواليد عام 1876) وبعد عقد قرانها دخل عليها زوجها فشاهدها تدخن سيكارة، فانزعج وطلب منها عدم التدخين فكان جوابها: ما دام يتناول الأركيلة فمن حقها أن تدخن.؟
و اذكر أن خالتي كانت معروفة في أسرتها وحيها أنها صاحبة الرأي السديد وأهلها وأهل حيها نساء ورجالا كانوا يأخذون برأيها في كل أمر صعب أو مشكلة تعترضهم، إنها صاحبة الرأي في كل شاردة ووارد.
كما أن شقيقة جارتنا في المنزل ولم تزل على قيد الحياة وهي من مواليد عام 1923 تحمل الشهادة الابتدائية (سرتفيكيا) ووالدتها كانت من مواليد عام 1899 وأيضاً كانت تحمل شهادة الابتدائية، وتزخر الأسر الدمشقية بالنساء المتعلمات، ولكن المسلسل اغفل كل ذلك وأغفل أيضاً دور الشباب المتعلم والمثقف فكل أبناء الحي يعملون (إجراء) في محلات آبائهم فهنالك أجير الخباز وأجير حلاق... ولم نر أي منهم يتابع دراسته رغم أن جامعة دمشق قد مضى على نشأتها حتى الآن نحو قرن من الزمان. لم تكن المرأة السورية بعيدة عن الهم الوطني.. فحين أعلنت الثورة السورية الكبرى ضد المحتل الفرنسي عام 1925، كانت المرأة السورية بجانب الرجل في الدفاع عن الوطن فكانت في الحقل والجبل والشارع تقف في وجه المستعمر.. ولم تزل حارات وأزقة دمشق تشهد على تظاهرات النساء على الانتداب الفرنسي. ويسجل لنا التاريخ أن دمشق استضافت في مطلع عام 1930 المؤتمر النسائي الشرقي الأول، بحضور وفد من نساء سورية برئاسة نور حمادة، وأن محاكم دمشق في ظل الانتداب الفرنسي ولأول مرة تشهد محاكمة النساء لقيامهن بمظاهرات ضد الانتداب الفرنسي، ومطالبتهن بالاستقلال وخروج المستعمر الفرنسي... ففي يوم 17 تشرين الثاني من عام 1934، خرجت نساء دمشق بمظاهرة انطلقت من مسجد الأقصاب وطافت شوارع دمشق وهن يحملن لافتة كتب عليها (نحن فتيات العرب، ليحيا الوطن.. ليحيا الوطن) وينادين بالحرية والاستقلال... مسلسل باب الحارة مع الأسف أغفل كل النساء اللواتي كان لهن حضور سياسي وثقافي في الشارع السوري، وأغفل الشباب المثقف وطلاب العلم.. باب الحارة غيب المرأة الدمشقية.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية