اعتدنا أن ننظر لكل صحفي يمتدح إنجازاً حكومياً ما على أنّه تابع للسلطة وجزء من النظام الرسمي، معتبرين أنّ مسؤولية الصحفي الأصعب والأشرف هي نقد الأنظمة والإيديولوجيات وكشف سلبياتها. وخوفاً أن أوصمَ بتهمة المسايرة تجنبت كتابة هذه المادة مرات عديدة، ثم وجدتُ أنّ الخوفَ من الاتهام بالتواطئ صار حاجزاً يمنعني من رؤية إيجابيات الآخر والاعتراف بها.
مشفى البيروني الجامعي لمعالجة الأورام في ريف دمشق هو ماأثار بي هذه النوازع المتناقضة إلى الكتابة تارة والانصراف عنها تارة أخرى. أتيحت لي زيارته مرات عديدة برفقة مريضة قريبة لي، ولهذا أقرُّ أنّ مادتي هذه مبنية على تجربتي ومشاهداتي التي قد تخضع لاحتمالات الصدفة، مما يحدُّ من إمكانيتها وإحاطتها بالموضوع. التزمتُ الصمتَ خلال زياراتي للمشفى مكتفية بالمراقبة حيناً، ولجأتُ أحياناً أخرى إلى استثارة المرضى والموظفين ليعبروا عن مشاعرهم وآرائهم دون أن يعرفوا غايتي، راجية في الحالتين أن أخرجَ بمادة صحفية عن واقع البيروني اليوم بعد مسيرة عامين من الإصلاح يفترض أنها عالجَتْ فساد المرحلة السابقة.
لاحظتُ منذ البداية نظافة المشفى رغم الازدحام الهائل فيه، ورأيتُ أنّ الدورَ الإلكتروني تمكّن إلى حدٍّ ما من ضبط الفوضى والتخفيف من السلوكيات الملتوية للمراجعين أو الموظفين. كما لاحظتُ معاملة الأطباء والممرضات الجيدة للمرضى، وكوني تسلّحتُ بالشك أداة للوصول إلى الحقيقة رحتُ أسألُ جميعَ من أصادفُ من مرضى علّي أحظى بشكوى، فما وجدتُ غير كلمات الرضا والامتنان، فعدلتُ عن كتابة المادة، إذ ماكان في نيتي أبداً أن أكتبَ ملحمة في مآثر الموظفين الحكوميين.
عادتِ الحماسة إلى قلمي لمّا صعدنا إلى قسم الحقن السريع في الطابق الثالث. هناك وجدتُ مقاعدَ تكسّرت أذرعُ معظمها، وهي بالكاد تكفي المرضى المتزايدين كلّ يوم عدا عن مرافقيهم الذين وقفوا ساعاتٍ طويلة أو أجبروا على مغادرة القسم وترك مرضاهم لمصائرهم، وتكاتفَ هذا مع انخفاضٍ في عدد الممرضات، فرحن يتذمرن من ضغط العمل، ولم يستطعن مراقبة مريضات السرطان أثناء تناولهن الجرعات الكيميائية، ومن المعروف أنّ لهذه الأدوية مضاعفاتٌ يمكن أن تصبحَ خطيرة إذا لم تُراقب جيداً. ذهبتُ أنادي الممرضة فصادفتُ أربعة آخرين يطلبون مساعدتها. لبّت ثلاثة منهم ثم أعلنت بحدة انتهاءَ دوامها.
راعني أنّها غادرت مع زميلتيها دون انتظار وصول ممرضات الدوام المسائي. بدا واضحاً أنّ الرقابة تضعفُ والإمكانياتِ تتضاءلُ كلما ابتعدنا عن مكتب الإدارة، مما جعلني أفكّرُ في احتمال تفشي الإهمال في أقسام أخرى لم تتح لي زيارتها.
تورّمت قدماي من الوقوف الطويل والحرارة اللاهبة، فانعدامُ التكييف وقلة المراوح في الصيف القائظ علّة أخرى مُنِيَ بها هذا القسمُ، فجلستُ على الأرض، وماكدتُ أستمتع بملمسها البارد حتى هرع إليّ موظفٌ ينذرني بأنّ هذا ممنوعٌ. كان أحدُ الصحفيين قد التقط مرة صورة لمريضة نائمة على أرض المشفى مندّداً بالفوضى والإهمال . ورغم أنّ مدير المشفى الدكتور وليد الصالح قدّمَ وجهة نظر مختلفة - فالمريضة التي اعتادتِ النومَ على الأرض طوال حياتها لم تتآلف مع السرير، وما كان ليجبرها أن تتخلى عما يريحها ليحافظ على المظهر الحضاري للمشفى- إلا أنّ تبريره الإنساني لم يجده نفعاً على مايبدو، وظلّ هاجسُ الجميع ألاّ يقعوا في مصيدة الصحافة.
عند تحريضي لإحدى الممرضات المرهَقات شكتْ من أنّ الكثيرات من أصحاب مهنتها يتجنبن العملَ في البيروني بسبب ضغط العمل، وهذا يزيدُ أعباءَ الباقيات منهن. ويقولُ د. الصالح أنّ أجورَ موظفيه يجب أن تكون أكثرَ من غيرهم في القطاع الحكوميّ كونهم يبذلون جهوداً أكبر، ويقترحُ أن يتمّ هذا من خلال عائدات العلاج غير المجاني للمرضى غير السوريين.
يرى د. الصالح أنّ تجربة البيروني مميزة ورائدة ليس فقط لأنه يقدّمُ العلاجَ المجاني لمرضى الأورام السوريين، بل كذلك لأنه يعتمدُ في أسلوب المعالجة مبدأ عمل الفريق. حيث يشرفُ على المريض فريقٌ طبيّ متنوع الاختصاصات (جراحة، أورام، أشعة، هرمون، الخ ...)، وهذا يوفرُ برأيه الإحاطة والشمولية والعلاج المتكامل. بينما يعتقدُ أطباءٌ آخرون أنّ هذا مشتتٌ للمريض. كذلك يتذمرُ معظمُ المرضى من تغيير طبيبهم كل مرة، مما يثيرُ لدينا تساؤلاً مشروعاً: مامدى مصداقية عمل الفريق؟ وماتأثيره على نفسية المرضى؟ هل يطّلعُ كلّ طبيب فعلاً على ملف المريض بالكامل ويناقشه مع زملائه؟ وماذا عن الألفة المفقودة بين المريض وأطبائه المتغيرين باستمرار؟ قد تكون استراتيجية عمل الفريق ناجحة طبياً إذا توفرت لها الإرادة، لكني أشكُّ أن تحققَ ذات النتيجة إنسانياً، مالم يتمّ اختيارُ طبيبٍ مشرف يقوم بدور الوسيط بين المريض وبقية الفريق الطبي.
مقابل شكوى بعض المرضى والمراجعين يعلو صوتٌ آخر من المشفى إدارة وأطباءً وممرضاتٍ: فالمرضى ليسوا دائما مثاليين. بعضهم يحاولُ اختراقَ الدور الالكتروني مثيراً الفوضى والتذمر. آخرون يلجؤون إلى أساليبَ ملتوية وغير أخلاقية كادّعاء قرابة مع الإدارة أو أحد الأطباء ليحظوا بفرصٍ أفضلَ من غيرهم، أو لينالوا دواء ثميناً لم تقرّه لهم لجنة المعايير معرّضين الموظفين للشك والمساءلة.
رغم الدعم الحكومي الكبير المقدّم للبيروني طبيا وإدارياً وخدمياً فإنّ الازدحام الهائل يفوق الطاقة الاستيعابية للمشفى كما يؤكّد د. الصالح، ولولا هذا لما اختلف البيروني عن مشافي الدول المتقدمة، لكنّ هذا الازدحامَ سيظلّ عائقاً أمام فرض النظام مهما توفرت النية الطيبة، خاصة وأنه المشفى الوحيد للأورام في سورية. لقد افتتحت مراكز صغيرة لذات الغرض في بعض المشافي الحكومية ، لكنّ معظمها يعاني من نقص الأدوية وسوء العناية، مما يدفعُ المرضى من كافة المحافظات للتدفق على البيروني. البيروني تجربة حكومية ناجحة تدلُّ على الاهتمام بصحة المواطن واحترامه، وتمنحُ الأملَ بقيام مشروعات متطورة في البلد، لكن إن بقيت وحيدة ولم تتكرر في مشفى آخر مماثل للبيروني فسيلتهمها الازدحامُ عمّا قريب.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية