العصبية بالتعريف هو انتماء الفرد لحدث تاريخي معين نشأ قبل قيام الدولة والتي تضم أفراداً مختلفين دينياً أو اجتماعياً أو مناطقياً أو قومياً أو عرقياً ضمن حدود معينة وقد توافقوا على عقد اجتماعي بينهم اسمه الدستور وماينبثق عنه من قوانين تنظم العلاقة بين هؤلاء الأفراد، فالعصبية القبلية مثلاً هو انتماء الفرد لسلطة القبيلة التاريخية التي سبقت الدولة وحدودها، والعصبية الطائفية الدينية هو انتماء الفرد لحدث ديني طائفي تاريخي قبل الدولة وحدودها، والعصبية القومية هو انتماء لحدث تاريخي قبل الدولة وحدودها.
كل العصبيات التاريخية ومهما اختلفت أنواعها لاتعترف بالدولة وحدودها، لذلك كانت أخطر مايهدد الدول، فالكثير من المنتمين لعصبية ما يعملون على عزل أنفسهم عن المجتمع والعيش في كانتونات تخصهم يعيشون فيها ولاءاتهم التاريخية، فلو نظرنا إلى الجاليات الدينية والقومية والعرقية على اختلافها في الغرب نرى أحياء لهذه الجاليات تعرف بها، وهذه الأحياء المنعزلة تؤرق الدول لأن البعض قد يستغلها لتنفجر بأي لحظة بقضايا تاريخية لاتنتمي لقضية مجتمع الدولة التي تحتويها، وبما أن الانتماء للعصبية هو ضد الدولة فالمنتمي لها بالضرورة في هذه الأحياء غالباً مايمارس أفعالاً خارجة عن قوانين الدولة تحت حماية هذه العصبية وماانتشار الجريمة والمخدرات في هذه الأحياء إلا دليلاً على ذلك.
بقي أن نقول أن العصبيات دائما ماتكون متصارعة لأنها تاريخية وهي تعمل على نقل صراعاتها التاريخية إلى الحاضر، لذلك وحده من يفكر بعقلية الدولة ينبذ العصبيات بينما يشجعها من يمارس الاستبداد الذي لايستطيع إلا أن يحيا على صراعات الآخر. وصراع العصبيات هي صراعات عنيفة ومدمرة وقاتلة، فالحروب مثلاً عبر العصور وعلى الرغم من أن أساسها اقتصادي وذات أهداف تختلف عن المعلنة، إلا أنها لبست لباس العصبيات ووجدت فيها داعماً لها، فقريش مثلاً عندما رفضت الإسلام رفضته بأساس اقتصادي يتمثل بتحالف عصبية تجار مكة ضد رسول يدعو للمساواة بين الغني والفقير والسيد والعبد، رسول يدعو لزكاة تؤخذ من الغني لتعطى للفقير، حتى أثرياء بني هاشم وقفوا ضد الرسول كعميه العباس الذي أسر في بدر وعبد العزى (أبا لهب)، وقد وجدت قريش الاقتصادية في العصبية القبلية الأموية مبررها على شن حرب استمرت حتى فتح مكة بعد أكثر من عشرين سنة من بدء الدعوة. وقد أنشأت العصبيات القبلية فيما بعد الخلافات الإسلامية الثلاث الأموية والعباسية والعثمانية بعد معارك طاحنة بينها نبشت فيها القبور، أما الحروب الصليبية القاتلة وعلى الرغم من أن أساسها اقتصادي فإنها لبست لبوس العصبية المسيحية الغربية باستنهاض البابا أوربان الثاني لكل مسيحي في الغرب للثأر لقبر المسيح الشرقي، أما الحربين المدمرتين الأولى والثانية والتي ذهب ضحيتهما حوالي مائة مليون إنسان والتي كان أساسها اقتصادي استعماري فقد لبست لباس العصبيات القومية كالألمانية النازية والامبراطورية اليابانية والفاشية الموسولونية.
إن كل العصبيات كالأمثلة التي ذكرت سابقاً قاتلة وهي تنتهي بدمار الجماعات التي حملتها أولاً. لقد عرف الاستعمار أن تشجيع العصبيات في الدول المستعمرة هي ضمان استمراره.
في سوريا مثلاً حاول الاستعمار الفرنسي تقسيمها وفق العصبيات الطائفية إلى دويلات درزية ومسيحية وعلوية وسنية، ولكنه اصطدم بأن زعماء العصبيات قد رفضوا هذا التقسيم، فسلطان باشا الأطرش الدرزي أعلن رفضه للعصبية الدرزية إن كان ذلك يفكك سوريا، بينما أعلن فارس الخوري المسيحي نفسه مسلماً من على منبر الأموي، وحارب صالح العلي العلوي هذا التصنيف العصبوي بالإضافة إلى إماماتها متمثلة بالشيخ سليمان الأحمد والد الشاعر الكبير بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد)، أما رجالات السنة كشكري القوتلي وعبد الرحمن الشهبندر وسعد الله الجابري فكان لهم أن أعلنوا سلطان باشا الدرزي قائداً عليهم في ثورة 1925، حتى اللعب على العصبيات القومية لم ينجح بوقوف ابراهيم هنانو وعبد الرحمن الشهبندر الكرديين ضد العصبيات وإعلانهم انحيازهم لسوريتهم. ومايقال عن سوريا يمكن اسقاطه على دول الشرق الأوسط. يبدو أن تجربة خيار إثارة العصبيات الداخلية سقط في المشرق العربي ولم ينجح كما نجح في أماكن أخرى كالهند حين أثار الاستعمار البريطاني العصبيات الهندوسية والإسلامية ضد بعضهما ليفتت القارة الهندية ويجعل الناس فيها تحيا لتثأر لا لتعيش مع التنمية والحاضر. مع سقوط إمكانية تفتيت الداخل فكر الغرب بعصبيات الدول الدينية، فأحضر اليهود إلى فلسطين ليشكلوا عصبية دينية تهدد العصبيات المجاورة، ومن ثم أنشأ العصبية السنية ممثلة بحركة الأخوان المسلمين، ومن ثم أنشأ العصبية الشيعية متمثلة بإيران وأحزابها في المنطقة. إن هذه العصبيات هي عصبيات صافية من نفس النوع العصبوي والفكري التاريخي و لاتسمح بالاختلاط، ولذلك فهي أخطر ما يهدد دول منطقة الشرق الأوسط وإن الاقتتال الدامي بينها يمنع عملية التنمية ويعطي المبررات لإنشاء سلط عسكرية قاتلة أيضاً وتمنع التنمية وتعلن قوانين الطوارئ وتلغي الديمقراطيات وتقمع الحريات بحجة حماية المجتمع من هذه العصبيات الدينية، ومن ثم تقوم هذه السلط العسكرية بإنشاء عصبياتها الخاصة الجاهزة للقتل وقد تتعاون مع العصبيات الدينية السالفة الذكر، ولنا في سوريا الأسد مثالاً على ذلك. مما سبق فيجب رفض الانتماء لهذه العصبيات التاريخية ولحظ ذلك عند إصدار قوانين الأحزاب أيضاً -والتي يجب الإسراع بها- بأن لاتسمح لمثل هذه العصبيات بالنمو. إن الأحزاب والحركات السياسية المدنية هي أهم وسيلة لاختلاط أفراد المجتمع على اختلاف انتماءاتهم تحت هدف واحد هو الانتماء للدولة ونبذ العصبيات وعلى أساس البرامج التي تفيد كامل أفراد المجتمع لاعصبية بعينها، بهذا فقط يستطيع ضحايا المرحلة الأسدية أن يعلموا بأن دماءهم وآلامهم لم تذهب هدراً. لقد كان خراباً بشر فيه الشاعر مظفر النواب في قصيدته (وتريات ليلية) حين قال:
"سيكون خراباً.....سيكون خراباً....سيكون خراباً
هذه الأمة لابد لها أن تأخذ درساً في التخريب"
أما آن لنا أن نوقف هذا الخراب بالابتعاد عن هذه العصبيات القاتلة اللامنتمية للدولة.
د.مصطفى حسين بطيخة - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية