أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الثورة السورية.. بين النهاية والاستمرار كحارس لأهدافها

يحتفل السوريون بالذكرى الرابعة عشرة لانطلاق الثورة السورية، التي بدأت في منتصف آذار من عام 2011، رافعةً شعار الحرية والكرامة، الذي يهدف إلى إسقاط نظام الأسد البائد وبناء دولة الحرية والعدالة. وفي سبيل تحقيق هذا الشعار، مرت الثورة بمنعطفات مهمة، إذ بدأت بالحراك السلمي، ثم ما لبثت أن تحولت إلى صراع مسلح بعد أن واجهها النظام البائد بالعنف.

ومع تعقّد المشهد الجيوسياسي، أصبحت سوريا مسرحًا لتداخلات إقليمية ودولية. واليوم، ومع تغيّر موازين القوى وسقوط نظام الأسد، يرى البعض أن الثورة قد انتهت، فيما يصرّ آخرون من السوريين على أنها لم تنتهِ بعد، وأنها مستمرة حتى تتحقق أهدافها كاملة في بناء الدولة وتحقيق العدالة الانتقالية، وأنها لا تزال قائمة كحارس لهذه الأهداف، وعند تحققها يمكن القول إنها بلغت نهايتها.

وبمقارنة الثورة السورية بتجارب مشابهة في دول عربية أخرى كمصر واليمن وليبيا، ورغم الاختلاف في المدة الزمنية وطريقة إسقاط الأنظمة في تلك البلدان، إلا أن هناك أوجه شبه في بعض الجوانب. فلم تحقق ثورات تلك البلدان جميع أهدافها، وأعلنت شعوبها انتهاء الثورات، مما شكّل هاجسًا لدى السوريين بأن ثورتهم يجب أن تُنجز كامل أهدافها قبل أن يُعلن عن نهايتها.

في هذا السياق، يقول الباحث والكاتب السياسي تركي مصطفى: "الثورة هي جملة من التغييرات البنيوية التي تطال البنى القيمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبهذا المعنى فإن سقوط النظام هو خطوة ضمن مسار الثورة. علينا أن نحدد أهداف الثورة السورية، فإن لم نتفق عليها، لا شك أننا سنختلف حول ما أُنجز وما لم يُنجز حتى الآن".

ويضيف: "ومن هذا المنظور، يمكن طرح تساؤلات محورية عن طبيعة الثورة السورية: هل هي حراك ضد النظام السياسي فقط، أم هي تحول عميق يشمل جوانب الحياة كافة؟ وعليه، يمكن القول إن الثورات لا تقتصر على تغيير الحكومات، بل تمتد لتشمل إعادة هيكلة بنية الدولة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في بعض الأحيان، لذا فإن الثورة السورية بدأت مرحلة جديدة بأساليب وأدوات مختلفة، وهي مستمرة".

من جهته، يقول الباحث السياسي لورانس شمالي: "لا بد بداية من فهم حقيقة الثورة ومعناها العميق؛ فالثورة عملية راديكالية تهدف إلى تغيير الأوضاع القائمة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وتبني تصورًا جديدًا لما يجب أن تكون عليه الأمور. ولذلك، فالثورة، إلى جانب كونها حالة ما فوق قانونية تتسم بالتغيير الجذري العنفي، فهي أيضًا حالة فكرية قيمية".

ويتابع: "بناءً على هذا التصور، يمكن القول إن الثورة قد انتهت في حالتها الأولى، أي من حيث المظاهر والأدوات الخارجة عن إطار القانون، مع الدخول في طور بناء نظام قانوني عادل بعد إسقاط النظام البائد. لكنها لم تنتهِ من حيث تفاعلها الفكري والقيمي مع الأحداث والمجريات. فالجزء الأصيل من الثورة هو تصورها لما بعد إسقاط النظام، والأفكار الثورية في حالة تفاعل دائم، مقرونة بالتزام الحاضنة الثورية بالدفاع عن هذه القيم والمطالب، التي تشكل العدالة الانتقالية أحد مطالبها الأساسية، لا الأخيرة. فالثورة انتهت أدواتها، لكنها لم تنتهِ فكريًا ولا قيميًا".

وفي تصريح سابق، قال السيد رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع إن "الثورة انتهت وصارت من الماضي، وبدأ عهد الدولة"، في حين لا تزال شريحة واسعة من السوريين تربط بين استمرار الثورة وتحقيق العدالة الانتقالية، التي تقتضي محاسبة المجرمين الذين ارتكبوا فظائع بحق الشعب السوري.

وعلى مدار أربعة عشر عامًا، لم تكن الثورة مجرد صراع سياسي، بل كانت تعبيرًا عن إرادة الشعب السوري في تحقيق الحرية والعدالة. وفي ظل الوضع الجديد، أي سقوط النظام البائد ووصول أبناء الثورة إلى سدة الحكم، يرى كثير من السوريين أن تحقيق العدالة الانتقالية هو المفتاح الأساسي لإنهاء الثورة، من خلال تحقيق أهدافها الجوهرية، والمتمثلة بالمحاسبة، والإنصاف، وبناء مستقبل جديد خالٍ من الاستبداد.

والعدالة الانتقالية كمفهوم، لا تقتصر على المحاكمات أو الإجراءات القانونية، بل هي منظومة شاملة تهدف إلى معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وتشمل أيضًا كشف الحقائق عن الجرائم المرتكبة، ومحاسبة المسؤولين عنها، وتعويض الضحايا، ووضع ضمانات لعدم تكرارها من خلال إصلاح القوانين والمؤسسات الأمنية والقضائية. وفي الحالة السورية، يبدو المشهد أكثر تعقيدًا بسبب تعدد الأطراف المتورطة في الانتهاكات، وعمق الشرخ الاجتماعي الناتج عنها، ما يجعل طريق العدالة محفوفًا بالصعوبات، لكنه ليس مستحيلاً.

من ناحية أخرى، ترى بعض الآراء أن الاستقرار السياسي في سوريا يجب أن يرتكز على ضمانات واضحة لتحقيق العدالة الانتقالية والمساءلة، وإلا فإن الأزمة ستُعاد إنتاجها بشكل مختلف. لذا، من الضروري معالجة جذور الصراع للوصول إلى استقرار سياسي مبني على أسس متينة من العدالة، الغائبة في زمن النظام البائد. ومن هنا، فإن ربط نهاية الثورة بتحقيق العدالة الانتقالية يُعدّ حقًا مشروعًا لمُطالِبيه، وضرورة أساسية لطيّ صفحة الماضي وبناء مستقبل سياسي في سوريا يسوده العدل والإنصاف.

وإذ تقترب الثورة السورية من إكمال عقد ونصف من الزمن، فإن السؤال الذي لا يزال مطروحًا بإلحاح هو: هل انتهت الثورة فعلًا؟ أم أنها دخلت طورًا جديدًا من أشكال المقاومة المدنية والسياسية والفكرية؟

إن استمرار المطالبة بالعدالة، والإصرار على عدم طيّ صفحة الجرائم دون محاسبة، وتمسّك شريحة واسعة من السوريين بقيم الثورة وأهدافها، يدلّ على أن هذه الثورة تجاوزت كونها مجرد لحظة سياسية إلى كونها تحوّلًا تاريخيًا طويل الأمد، يعيد صياغة الوعي السوري، وينقله من حالة الرضوخ إلى حالة الفعل.

قد تكون الثورة فقدت زخمها الميداني أو تراجعت عسكريًا، لكنها لم تُهزم فكريًا أو أخلاقيًا، طالما أن هناك من لا يزال يرفع صوت المظلومية، ويتمسّك بالحقيقة، ويؤمن بأن بناء سوريا الجديدة لا يكون إلا عبر العدالة والمساءلة، لا عبر التسويات القسرية ولا التغاضي عن حقوق الضحايا.
ولذلك، فإن الثورة السورية، وإن بدت للبعض كأنها انتهت، إلا أنها لا تزال حية في ضمير السوريين، تنبض كلما ذُكر شهيد أو معتقل، وتتنفس كلما طالبت أمّ بالقصاص، وتُبعث من جديد كلما تشكّل وعيٌ جديد بأن لا مستقبل بلا عدالة.

صالح العبدالله - زمان الوصل
(16)    هل أعجبتك المقالة (8)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي