أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

التجربة الهولندية.. من أكثر دول أوروبا طائفية إلى مثال متفرد للتعايش السلمي

أرشيف

لماذا نكتب عن هذه التجربة؟
في أي مجتمع يعاني من انقسامات طائفية كسوريا، يصبح البحث عن حلول مستدامة ضرورة أساسية لبناء مستقبل مستقر ومتسامح.

من هذا المنطلق، تأتي أهمية دراسة التجربة الهولندية في تجاوز الطائفية الدينية، خاصة بين الكاثوليك والبروتستانت، كواحدة من أبرز الأمثلة على كيفية تحول الصراعات الطائفية إلى تعايش مشترك.

يضاف إلى ذلك أن هولندا في مرحلة من التاريخ كانت تعتبر أكثر دولة في العالم طائفيةً, حيث وصلت لدرجة لم تسبقها إليها أي دولة أوربية من حيث انقسام المجتمع بين الكاثوليك والبروتستانت, وبالتالي نظرا لهذا السبب تعتبر دراستها مفيدة خصوصا حين نتحدث عن الدول التي لديها مشكلة شبيهة وتعمل على تجاوزها.

بالطبع، هناك اختلافات جوهرية بين المجتمع الهولندي والمجتمع السوري، سواء من حيث الخلفيات الثقافية، الفكرية، أو التاريخية.

ومع ذلك، فإن دراسة التجارب الناجحة لشعوب أخرى يمكن أن تقدم دروسًا مفيدة حول كيفية إدارة التنوع الديني والطائفي، وصياغة نموذج محلي قادر على تجاوز هذه التحديات بطرق تتناسب مع واقعنا السوري.

إن فهم كيفية نجاح هولندا في التحول من الصراع الديني إلى مجتمع تعددي، يمكن أن يكون مصدر إلهام للبحث عن استراتيجيات عملية لمواجهة الطائفية في أي مجتمع يسعى للسلام والاستقرار.

* تاريخ الصراع الطائفي في هولندا
لطالما كانت هولندا ساحة للصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، خاصة منذ عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر. إلا أن هذا البلد تمكن، عبر قرون من التوترات والانقسامات، من بناء مجتمع متسامح يقوم على التعددية الدينية والتعايش السلمي.

بدأ الانقسام بين الكاثوليك والبروتستانت في هولندا مع حركة الإصلاح البروتستانتي التي قادها "مارتن لوثر" و"جون كالفن" في القرن السادس عشر. أدت هذه التحولات الدينية إلى صراعات عنيفة، خاصة بعد تمرد المقاطعات الهولندية ضد الحكم الإسباني الكاثوليكي، والذي انتهى بإعلان استقلال هولندا عام 1648 بموجب صلح "وستفاليا".

خلال هذه الفترة، أصبحت البروتستانتية الكالفينية الدين الرسمي للدولة، وتعرض الكاثوليك للتمييز، حيث مُنعوا من ممارسة شعائرهم الدينية علنًا.

استمرت التوترات حتى القرن التاسع عشر، حيث كانت المجتمعات الكاثوليكية تعيش في عزلة اجتماعية، محرومة من الحقوق السياسية الكاملة.

* نظام "التقسيم العمودي" (Pillarization) كوسيلة للتعايش
بحلول القرن التاسع عشر، تبنت هولندا نظام "التقسيم العمودي" (Pillarization) كوسيلة لاحتواء التعددية الدينية والأيديولوجية.

- ما هو نظام "التقسيم العمودي"؟
كان المجتمع الهولندي مقسمًا إلى "أعمدة" اجتماعية، حيث كان لكل مجموعة دينية أو فكرية مؤسساتها الخاصة، مثل المدارس، المستشفيات، الصحف، والنقابات.

عاش الكاثوليك، البروتستانت، الليبراليون، والاشتراكيون ضمن مجتمعات شبه مستقلة، لكنها متوازنة في الحقوق والتمثيل السياسي.

سمح هذا النظام لكل طائفة بإدارة شؤونها الداخلية مع الاعتراف الرسمي من الدولة، مما قلل من الاحتكاكات المباشرة بينها.

*التحولات السياسية والاجتماعية: الطريق نحو العلمانية والتسامح
مع منتصف القرن العشرين، بدأت العلمانية والتحديث في تقويض الحواجز الطائفية، مما ساعد على تحقيق مجتمع أكثر وحدة.

ومن الإصلاحات السياسية والقانونية:
في عام 1917، تم إقرار المساواة في تمويل المدارس الدينية والعلمانية، مما منح الكاثوليك والبروتستانت حقوقًا متساوية في التعليم.

تم دمج القوانين التي تحظر التمييز على أساس الدين، مما أتاح للكاثوليك التمتع بحقوقهم المدنية والسياسية بالكامل.

*صعود القومية الهولندية المشتركة
بعد الحرب العالمية الثانية، تضاءلت أهمية الهويات الطائفية أمام الهوية الوطنية الهولندية، حيث أصبح الولاء للدولة أكثر أهمية من الولاء الديني.
- تأثير الحركات الاجتماعية
في الستينيات والسبعينيات، أدت حركات الشباب والثقافة المضادة إلى تفكيك القيود الدينية، وأصبح المجتمع أكثر انفتاحًا على الحريات الفردية والعلمانية.
عزز التعليم الحديث والإعلام التعددية الثقافية والفكرية، مما قلل من تأثير الخطاب الطائفي وفتح المجال لحوار ديني أكثر انفتاحًا.

- مجتمع ما بعد الطائفية
اليوم، تعتبر هولندا من أكثر الدول تسامحًا وتعددية دينية في العالم، حيث تحترم الدولة حرية المعتقد الديني دون تدخل في الشؤون الدينية, لم يعد للدين تأثير كبير على السياسات العامة أو هوية المواطنين.
ولكن رغم أن نسبة كبيرة من السكان غير متدينين، فإن المؤسسات الدينية لا تزال تلعب دورًا ثقافيًا واجتماعيًا مهمًا.

*كيف يمكن الاستفادة من التجربة الهولندية في السياق السوري؟
بالرغم من الاختلافات الكبيرة بين المجتمع الهولندي والمجتمع السوري، فإن هناك بعض الدروس التي يمكن استخلاصها.

منها تبني مفهوم "التعددية المنظمة": بحيث يتم الاعتراف بالهويات الدينية المختلفة، ولكن ضمن نظام يضمن المساواة بين الجميع.

وترسيخ ثقافة المواطنة بدلًا من الهويات الطائفية.

فقد نجحت هولندا في جعل الهوية الوطنية أقوى من الولاءات الدينية، يمكن في سوريا العمل على تعزيز مفهوم الهوية السورية الجامعة التي تتجاوز الانقسامات الطائفية.

من الضروري تعزيز دور التعليم والإعلام في نشر ثقافة التسامح، فالتعليم الحديث والإعلام الموضوعي يمكن أن يلعبا دورًا رئيسيًا في تفكيك الأفكار الطائفية وتعزيز قيم التعايش.

علما أن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل يتطلب مراحل تدريجية تشمل إصلاحات سياسية، اقتصادية، وتعليمية، كما حدث في هولندا.

*خاتمة
نجحت هولندا في تجاوز الطائفية الدينية من خلال نظام التقسيم العمودي، الإصلاحات القانونية، ترسيخ العلمانية، وتعزيز الهوية الوطنية المشتركة. لم يكن الأمر سهلاً، بل استغرق قرونًا من التكيف والتغيير، لكن النتيجة كانت مجتمعًا قائمًا على الاحترام المتبادل والتعددية.

رغم أن سوريا تختلف عن هولندا تاريخيًا وثقافيًا، إلا أن دراسة تجارب الشعوب الأخرى قد تفتح آفاقًا جديدة نحو إيجاد حلول محلية تتناسب مع واقعها، وتسهم في بناء مجتمع أكثر استقرارًا وعدالة.

حسن قدور - زمان الوصل
(12)    هل أعجبتك المقالة (11)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي