التشكيلية السورية "ملاك عابدة" لـ "زمان الوصل" أسلوبي الفني يعكس الروحانية والتأمل في وجود الأشياء

"ملاك عابدة" فنانة تشكيلية سورية، شاعرية النزعة، هاربة من أشكال القبح والجدل العقيم والفذلكات اللونية والبهلوانيات التقنية، مغامرة أبحرت بعيداً عن لغط السوق ومضارباته، أحرقت السفن خلفه وسلمت مفاتيح قلبها لآلهة الفن فضمتها إلى صدرها الحنون، وفتحت لها خزائن الجمال تنهل منها ما شاء لها أن تنهل.

كانت عابدة منذ الصغر مغرمة بزوايا الدفاتر وهوامش الكتب، فما من كتاب ودفتر إلا وتحوَّل بين يديها إلى أشكال ورسوم، وروت في حديث لـ"زمان الوصل" أن علاقتها الحميمية مع علبة الألوان وأدوات الرسم بدأت منذ الطفولة حيث كانت تنبهر بالألوان وتقضي جل وقتها في الخربشات وكل ما تستطيع رسمه.

وتابعت محدثتنا أن البيئة التي نشأت فيها كانت غنية بالمؤثرات الثقافية والفنية فوالدتها كانت مهتمة بالفنون الحرفية التراثية، لكن انطلاقتها الجادة كانت أشبه بوحي، وتوضح الفنانة المقيمة في الرياض أنها صقلت تجربتها التشكيلية من خلال العمل والتجارب المستمرة ومتابعة الفنون المحلية والعالمية، كما أن تجربة الحياة وخصوصاً الظروف التي مرّ بها بلدها التي تعافت من الاستبداد مؤخراً كان لها تأثير كبير على كيفية رؤيتها للألوان والفن بشكل عام. ولفتت محدثتنا إلى أن الروافد الثقافية التي أسهمت في صقل تجربتها تراوحت بين التراث العربي والتجارب العالمية في الفن التشكيلي التي تأثرت بها، والكثير من المعارض والملتقيات الفنية التي أقامتها وشاركت بها.

وحول كينونة المرأة في أعمالها التي تبدو في حالة جدل دائم مع العالم الخارجي وفي الوقت نفسه بانتظار المستقبل بفارغ الصبر قالت عابدة "نعم المرأة في أعمالي تمثل حالة من التناقض المستمر بين الصراع مع العالم من حولها وبين تطلعها للمستقبل. وهي تشكل رمزًا للصمود والتغيير المستمر، وتكمن في داخلها طاقة دافعة نحو النمو والتحول.

وأردفت أن "دلالات هذه الحالة تتجسد في مفهوم الزمن، الذي يمر ببطء في بعض اللحظات، لكنه يتسارع في أخرى، ما يعكس فكرة الوجود كعملية متواصلة ومتجددة. وهذه الفكرة-حسب قولها- متأصلة في الأبعاد الوجودية للمرأة، التي تمثل في نظرها الجسر بين الماضي والمستقبل.

وتبدو شخوص لوحات عابدة وخاصة الأنثوية منها وكأنها تسبح في غلالة شفافة من الضوء واللون. وهذا لا ينطبق على التشكيل في المساحات والاشتغال على الفراغ فحسب، وإنما على الألوان أيضاً التي تعالجينها بروحانية تأملية نلمسها "منسوجة" على قماش اللوحة. وحول تكنيكها الفني ولماذا تعمدت هذا الأسلوب أشارت إلى أن تكنيكاتها الفنية تتسم بالتداخل بين الضوء واللون لخلق أجواء مليئة بالغموض والحيوية في الوقت ذاته.

وتحب أن تستخدم الطبقات المتعددة من الألوان لتشكيل "غلالة" شفافة تجعل الشخصيات تتداخل مع المحيط بشكل غير مرئي، وكأنها جزء من الكيان الأكبر.

ونوهت محدثتنا إلى أن "هذا الأسلوب يعكس الروحانية والتأمل في وجود الأشياء، وفي حالة النساء على وجه الخصوص، حيث أرادت أن تضفي عليهم نوعاً من النعومة والانتظار، وكذلك التأمل العميق في الذات والوجود.

واستدركت أن "هذا التكنيك يخلق تفاعلاً بين التكوينات اللونية ويسمح للمتلقي بتفسير العمل من زوايا متعددة".

ويلاحظ من يتأمل أعمال "ملاك عابدة" التشكيلية ما يشبه الاستعارة التراثية التي تحول اللون إلى اهتزازات نورانية. وحول علاقتها بالتراث وكيف تنظر إلى توظيفه في السياقات الفنية قالت إن علاقتها بالتراث متشابكة ومعقدة، فهو جزء من هويتها الفنية والثقافية.

وأضافت:"التراث يمنحني نوعاً من الإلهام والحكمة، لكنني لا أعتبره عبئا أو قيدا.

ولفتت إلى أنها تعمد إلى دمج التراث بأسلوب عصري يتجاوز المألوف، ولهذا يلمس المتلقي في أعمالها استعارات لونية وتأثيرات ضوئية تنبع من الرموز التراثية ولكنها تُقدّم بشكل معاصر. مضيفة أن "الهدف هو ربط الماضي بالحاضر، فالتاريخ يظل جزءاً من كل عمل فني، ويمكننا من خلاله بناء خطاب جديد يجسد مفاهيمنا المعاصرة".

وحول الحضور الطاغي للون الأحمر بتدرجاته المختلفة في أعمالها ودلالات ذلك توضح عابدة أن "اللون الأحمر بالنسبة لها له دلالات متعددة تتراوح بين القوة والعاطفة، وبين الألم والدم. هو اللون الذي يعبر عن الصراع، ولكنه أيضًا يعكس النبض الحيوي والتجدد.

وتضيف: "في أعمالي التي تناولت مواضيع الحرب والمقاومة، يمثل الأحمر الدم والتضحية، ولكنه أيضًا يحمل رسالة الأمل والتحول. وهذا اللون يعكس التوتر بين الحياة والموت، بين الظلمة والنور، وهو يعبر عن شدة التجربة الإنسانية، سواء كانت ألماً أو انتصاراً".