أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ارحمونا... رأفة بأبنائنا

طفل سوري في ساحة الأمويين - رويترز

في العام الماضي، كنت على موعد مع طبيب سوري "علوي"، اختصاص قلبية، حصلت عليه قبل ثلاثة أشهر، وهو زمن عظيم لمن يعرف مواعيد الأطباء المختصين في فرنسا، التي تحتاج إلى ستة أشهر على الأقل وربما أكثر من ذلك.

ومما زاد  من عظمة الموعد عندي، أنني لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات، سوف أتحدث إلى طبيب أستطيع أن أشرح له أوجاعي، دون حاجة لاستخدام مترجم أو الاستعانة بصديق عبر الهاتف، قد لا أجده في الكثير من الأحيان.

في صالة الإنتظار، كنت أراقب الطبيب وهو يأخذ مرضاه واحدا تلو الآخر، ويتحدث معهم بفرنسية طليقة، بينما رحت أتخيل اللحظة التي سأخبره فيها أنني سوري عندما يحين دوري، وكيف أنه قد يأخذني بالأحضان، أو على الأقل يبتسم ابتسامة عريضة، ثم يقول لي بلهجة سورية: أهلين وسهلين. 

لكن للأسف لم يحصل أي شيء من كل ذلك، فأول ما بادرني بعد أن أخبرته أنني سوري: من أي محافظة أنت ..؟ تغيرت ملامحه وجهه وأصبح كظيما بعد أن أقلت له  .. ثم سألني بشكل مباشر وعلى نحو غير متوقع: لماذا اخترتني بين كل أطباء القلبية في المنطقة ..؟ فقلت: ببساطة لأنك سوري وأنا بحاجة لطبيب يفهم علي وأفهم عليه .. رد: إذا أنا سوف أوصلك بطبيب آخر سوري في نفس المنطقة والاختصاص وهو من درعا، ومعارض مثلك.

كان قد أخبرني خلال فترة التعارف القصيرة، أنه سمع باسمي من قبل، وربما قرأ لي بعض المقالات التي أتهجم فيها على النظام، ثم قال لي بفجاجة، أنه لا يرغب بمعالجتي، لكن إذا أصريت فهو سوف يقوم بعمله كالمعتاد كأي طبيب.

هذه الحادثة التي أرويها اليوم، لم تترك أي أثر في نفسي حينها، بل على العكس، خرجت من عنده مزهوا، كما لو أن أحدهم قلدني للتو وسام البطولة والكرامة . حتى أن بعض الأصدقاء اشاروا علي أن أشتكي للسلطات الفرنسية سوء تصرفه معي، فقلت لهم: بالعكس أنا شاكر له  .. لقد عالجني من حيث لا يدري .. على ما يبدو أن الأوجاع التي كنت أشعر بها، لم تكن عضوية، وإنما لها علاقة بحالة الإنهزام الداخلي التي رافقتنا خلال السنوات الماضية، وها هو قد أعاد لي جزءا كبيرا من طاقتي المفقودة.

ما يجعلني أسترجع هذه الحادثة اليوم، هو حالة الانقسام التي زرعها فينا نظام الأسد، وكيف أن طبيبا وصحفيا من نفس البلد، يعيشان في إحدى الدول الأوروبية المتقدمة وينعمان بالمواطنة فيها، وقد لا يفكران بالعودة إلى سوريا على الإطلاق، بينما أصبحت الهوة بينهما شاسعة، ويتعاملان مع بعضهما كأنهما غرباء أو أعداء، بناء على الموقف السياسي فقط.

لا ألوم هذا الطبيب ولا ألوم نفسي، لأن الشعب السوري في كل مكان ومن كافة المكونات، أصبح يعاني من حالة اكتئاب عام، حالة تشبه الانهيار العصبي الجماعي .. تخيل نفسك لو قررت اليوم زيارة صديق عزيز بعد غياب فترة طويلة ، إنك على الأغلب لن تستطيع أن تجلس معه سوى لبضعة دقائق .. إن الواحد منا أصبح يشعر أن روحه شاردة ، تائهة ، لا تستطيع التآلف حتى مع آخر حميم.

باختصار، ما فعله نظام الأسد ليس من السهل تجاوزه ، فهو يجعل من الحليم غضبان، ومن العاقل مجنون، ومن صاحب الرأي السديد حيران.

وكل ما تشاهدونه اليوم من ردود أفعال طائفية موتورة من جميع الأطراف، هو طبيعي بعد أكثر من 13 عاما من الممارسات الوسخة لنظام الأسد وحلفائه في سوريا . وهذه المرحلة برأيي يجب أن نتجاوزها، ليس حبا ببلدنا فقط الذي عاد إلينا أخيرا، وإنما رأفة بأبنائنا الذين من حقهم أن نورثهم المستقبل، لا أن نورثهم ماضينا الآثم .

فؤاد عبد العزيز - زمان الوصل
(9)    هل أعجبتك المقالة (6)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي