تشكل قضية الأقليات في سوريا إحدى القضايا الشائكة التي ترتبط بتاريخ البلاد وثقافتها وهويتها الحضارية. فسوريا، بأقلياتها المتعددة، كانت دائمًا نموذجًا فريدًا للتعايش الثقافي والحضاري. لكن مع تعاقب الأزمات السياسية والاجتماعية، بدأت هذه التوازنات تتعرض لتصدعات خطيرة، كان أبرزها ما أفرزته تجربة "قسد" (قوات سوريا الديمقراطية)، التي أثرت بشكل عميق على هوية الأكراد وعلاقتهم بمحيطهم الحضاري.
إن أخطر ما في مشروع "قسد" أنه قاد الأكراد نحو ارتهان سياسي وثقافي بعيد عن المحيط الإسلامي الذي عاشوا ضمنه لمئات السنين.
وهنا لا نتحدث عن الإسلام كدين فحسب، بل كحضارة وثقافة ساهم في بنائها الجميع، مسلمون وغير مسلمين، عربٌ وغير عرب. لقد شارك الأكراد عبر التاريخ في صياغة القيم والمبادئ التي شكّلت الهوية الحضارية لسوريا، وتعايشوا في ظل هذا الإطار مع بقية مكونات المجتمع.
ومع ذلك، فإن مشروع "قسد" جاء ليقوض هذا الانتماء الحضاري، في محاولة لعزل الأكراد عن جذورهم الثقافية والدينية. وهنا تكمن خطورة "قسد"، فهي ليست مجرد قوة سياسية أو عسكرية، بل هي مشروع يهدد الهوية الحضارية للأكراد، ويضعهم في مواجهة مع محيطهم الذي شكلوا جزءًا أساسيًا منه.
إلى جانب ذلك، تشهد منطقة السويداء، التي تسكنها غالبية درزية، أصواتًا انعزالية تطالب بتطمينات خاصة، وترى في نفسها خصوصية تميزها عن باقي المكونات السورية.
مثل هذه المطالب تحمل في طياتها خطرًا كبيرًا على المشروع الوطني السوري، إذ تعزز النزعات الانفصالية، وتكرس الانقسام بين مكونات المجتمع.
إن الهوية الوطنية السورية الجامعة لا تحتمل الانعزال أو التمايز على أساس طائفي أو إثني، بل تعتمد على التعايش والاعتراف المتبادل بين مختلف الأطياف.
يتذكر الكثيرون قول الكاتب السوري المعروف "فؤاد حميرة"، الذي كان من أبرز المعارضين للنظام بعد انطلاق الثورة السورية.
قال "حميرة": "أن تكون سوريًا يعني حكمًا أن تكون سنيًا". هذا القول لا يشير إلى الانتماء الديني بقدر ما يسلط الضوء على هوية ثقافية وحضارية شكلتها الأغلبية العربية المسلمة عبر قرون.
فقد تأثر الجميع بهذه الهوية، مسيحيون وعلويون ودروز وأكراد، حيث تشربوا عبر الأجيال قيمًا وعادات وأفكارًا نسجتها الأكثرية المسلمة، وحملت معها الهوية الثقافية لسوريا.
منذ الفتح الإسلامي وحتى اليوم، كانت سوريا جزءًا من حضارة إسلامية واسعة استوعبت تنوعها الإثني والديني.
حتى أن كثيرًا من الحكام الذين حكموا سوريا لم يكونوا عربًا، لكنهم استمدوا شرعيتهم من ارتباطهم بهذه الثقافة الجمعية. فمثلاً، نور الدين الزنكي، الذي كان تركيًا، وصلاح الدين الأيوبي، الذي كان كرديًا، هما من أبرز الشخصيات التي ساهمت في بناء هذه الحضارة، وظلت أسماؤهم حاضرة كرموز للوحدة الثقافية والحضارية.
إن تآكل هذا الإطار الحضاري بفعل مشاريع مثل "قسد" والمطالب الانعزالية في السويداء يمثل تهديدًا ليس فقط لهوية هذه الأقليات، بل لسوريا ككل.
فالتاريخ السوري يثبت أن التنوع كان دائمًا مصدر قوة وثراء، وأن محاولة تفكيك هذا النسيج لا تخدم سوى الأجندات الخارجية التي تسعى لتمزيق البلاد.
لهذا، يبقى التحدي الأكبر هو إعادة الاعتبار للهوية الحضارية السورية الجامعة، التي تقوم على قيم التعايش والاعتراف بالتنوع. وهذا يتطلب مواجهة المشاريع التي تسعى إلى تكريس الاصطفافات الطائفية والإثنية على حساب الهوية الوطنية، والعمل على تعزيز الروابط التي تجمع السوريين بمختلف أطيافهم، بدلًا من تمزيقها.
فالخلاص لسوريا يكمن في استعادة هذا النموذج الحضاري الذي جعلها دائمًا موطنًا للتنوع والثراء الثقافي.
د. حسام حاج عمر - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية