أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أسباب عدم بث 'السيد المسيح' للمشاهد المسلم

المسلم اليوم، كالمتكلم السالب للغة، يعلم كل شيء عن دينه لكنه جاهل بـ "التكلم" بلغة دينه أي غير قادر على اكتساب المهارات التي تجعل منه "متكلما" موجبا؛ مطبّقا لدينه ومتصالحا مع طريقة تطبيقه له. فعلى مَن سيُلقي اللوم هذا المتكلمُ السالبُ؟ طبعا على نفسه. وبالتالي فلن يكون له من منقذ من الضلال، ضلال التفريط في "لغة" كان متملكا لها، إلاّ نفسه.

ووَضعُ المسلم هش لأنّ تساؤلاته عديدة ومتشابكة مع بعضها البعض، ولأنّ له من التطلعات ما يبني قصورا لا تتسع لها مساحة الدنيا كلها. لذلك تراه لم يحسم بشكل نهائي وواضح في قضايا اجتماعية حيوية مثل قضية المرأة. وليس له موقف لا أخلاقي ولا علمي من مجموعة من قضايا الاقتصاد مثل: كيف سينمّي الموارد الطبيعية وكيف سينتفع بها دون أن يتسبب في استنزافها ولا في إفساد المحيط أثناء استغلالها.

كما تبرز الهشاشة في وضع المسلم في كونه لا يعرف لماذا أضحى لا يقتنع بالضروري وحتى بالكمالي في لبسه وشربه ومسكنه وتنقلاته. لا يدري لماذا صار يهِمّ ببناء البيت تلو البيت تلو البيت، ولماذا يقتني عربة له وأخرى لزوجته وثالثة لابنه أو ابنته. ولا علم له إن كان ذلك من باب التعويض أو من باب التوسع والتظاهر، بينما تراه في صدارة مَن يناهضون التوسّع على حساب ضميره وحقوقه في الوجود وفي بناء العالم الجديد. وهل يتسنى له أن يناهض التوسع الصهيوني والإمبريالي بغير مقاومة للميل الذاتي إلى التوسع؟

ويظهر هزال الجسم الثقافي للمسلم كذلك في كونه لا يتملك دراية بكيفية ربح المال الحلال دون أكل السحت ومال المستضعفين وحقوقهم. ولا يعرف المسلم الطريق المؤدية إلى أفضل المناهج التحررية التي من شأنها أن تعرض على الناشئة المتعلمين وغير المتعلمين وسائل تكون بحق وسائل لبناء المستقبل. ولا يتوفر لديه نموذج استراتيجي يتبعه في كل ذلك وفي العديد مما يشابه ذلك.

وبالرغم من كل ذلك الضعف في تكوين بنية المسلم المعاصر يأتي له سماسرة الرأي من قوى الابتذال الثقافي بـ "لغة" أخرى غير تلك التي يفهمها ويستسيغها. ينزّلون عليه "كتابا" جديدا وهو ما زال يعاني من سوء ثقته بفهمه لـ "لغته" الأولى وكتابه الأصلي: الموروث الإسلامي عموما وكتاب الله العزيز وسنة رسوله، خصوصا.

وهذا التدخل غير المرغوب فيه في الشؤون الوجودية للمسلم المعاصر سيزيد الطين بلّة حيث سينقاد هذا الأخير، بما أنه "متكلم سالب" لـ "لغة" ثقافته الذاتية، إلى مغريات "اللغة" الوافدة عليه. سيزداد وضعه المعنوي ازدراء لأن وفود "اللغة" الجديدة عليه سيكتسي حينئذ، وبمفعول ذلك التدخل الهمجي، طابعا قسريا واستبداديا.

كيف لا تسوء أحوال المسلم "القاصر" والحال أنّ المتاجرين بالتثقاف العشوائي، يمدّونه بـ "لغة" متداولة يتم اختيارها لا لشيء إلاّ لكونها زهيدة الثمن (رغم قيمتها الفنية ورغم دسامة مادتها الثقافية في معظم الأحيان!)، أو بدعوى أنّ أصحابها قد بلغوا أوج الحضارة وبالتالي يمثلون نموذجا يحتذى؟ كيف لا وهُم يخاطبونه كأنهم يقولون له: (تعالى، طالما أنك في حيرة من "لغتك" لنُسعفنّك بـ "اللغة" المُباعة أكثر في السوق، لغة المسيح، لغة التقدم والموضة والرقي والتحضر.) أما ذروة الهمجية فتتمثل في كونهم يفعلون ذلك بغير نيّة التبشير، بل بالعكس بنية تصحيح عقيدة الآخرين، كما سيتبيّن لنا.

لستُ ضد المسيح ابن مريم عليه السلام. بل كمسلم ليس لي حق في أن أكون ضده. لكني أناشد كل مسلم أن يقف ضد من يقدم أيقونة المسيح كبديل إيديولوجي لإيديولوجيا العرب والمسلمين، عِلما أو من دون علم بأنّ هذه الأخيرة إنما هي في طور النشأة والإنشاء. وعادة ما يتمثل العرض المُغري في أشكال فنية وأدبية مختلفة.

والذي يلفت الانتباه ـ ونحن خارجون من شهر رمضان الكريم ـ هو بث مسلسل تلفزيوني إيراني عنوانه "السيد المسيح" في أكثر من فضائية عربية. أمّا الغريب في ترويج مثل هذه الدراما هو أنها تسيء، ليس فقط للمسلم المعاصر ذي التكوين الحضاري الجنيني والمتعطش إلى مادة إبداعية هادفة ومستجيبة لحاجياته العاجلة والآجلة مما ذكرتُ أنفا، وإنما تسيء أيضا لغير المسلمين.

بالفعل فما لبثت، وأنا بصدد إتمام هذه الورقة، أن اطلعت على خبر مفاده أنّ قناة فضائية عربية قد تكون استجابت للكنيسة اللبنانية فأوقفت بث المسلسل بعنوان أنه يُظهر أنّ من صُلبَ هو "يهوذا" لا السيد المسيح، مما أثار احتجاج الكنيسة في لبنان، ولها الحق في ذلك.

والسؤال المحَيّر هو: لماذا تقترف قوى المزايدة على إنتاجِ ثم بثِ السلع الثقافية إثما في حق من يحبذ التبشير، وفي الآن ذاته في حق من يرفض التبشير؟ فلا المسيحي يقبل بتشويه عقيدته ولا المسلم يقبل بأن تُفرَض عليه مادة للاستهلاك السريع، لا باسم التثاقف (مع تفضيل الاغتراب على الانكماش؛ والنتيجة واحدة) ولا بموجب الرغبة في الربح التجاري (بالرغم من أنّ المشاهد ليس تاجرا ولا ينبغي أن يكون كذلك). فلم يَبق إذن سوى حجة الجهالة في التعامل مع المسلم "القاصر" لتفسير الغرض من ترويج مثل تلك المنتجات، من مسلسلات، وأغنيات عصرية وشبابية، وغيرها مما يتداول في السوق وفي المشهد السمعي البصري عموما في المجتمع العربي المسلم.

فكلها أصناف من التبشير الثقافي تعدّ تنصيرا غير مباشر وعنفا مسلطا على ثقافة عظيمة لكنها مازالت قاصرة في نسختها المعاصرة. وهي ممارسات تعدّ، بلُغة الحق المدني، تحويلا لوجهة قاصر والنيل من شرفه.

إنّه من المؤسف حقا ومن المؤلم أن نسجل أنّ قوى التهميش الثقافي للإنسان العربي المسلم لا حلّ لها سوى مشاهدة ثقافتنا الذاتية تُهجَّن فتُدجّن، وأنها لا تملك سوى عناوين مثل عنوان العصرنة والحداثة من جهة أو عنوان تصحيح تاريخ الأنبياء من جهة ثانية، لتبرير وقوعها في ممارسة التبشير الثقافي وتسهيل تمرير الخزعبلات الوافدة. وبهاته المناسبة لا أملك إلاّ أن أحي موقف الكنيسة في لبنان في قضية "السيد المسيح"؛ لقد خدمت المسار التحرري للمسلم المعاصر أكثر مما خدمته الأطراف الأخرى، وهي مسلمة، التي أنتجت المسلسل.

ومهما يكن من أمر فالذي تجهله القوى المفتقرة إلى البعد البيداغوجي الشامل في تكوين المسلم المعاصر هو أننا اقتدينا وما زلنا نقتدي بالحضارة المسيحية عقلا وإنجازا. والعاقل من لا ينكر هذا. والجاهل من لا يدرج هذه الحقيقة في حساباته.

لكننا في المقابل نريد أن نقتدي بكيفية إعمال المسيحيين للعقل ولا نريد أن نقتدي بكيفية وصولهم إلى إعمال العقل. كما نرغب في إتباعهم في سيطرتهم على الطبيعة لكننا لا نرغب في اتباع نفس العقيدة التي استجابوا لها هُم في إعلان سيطرتهم على الطبيعة. كما نودّ أن نشاركهم في الحداثة، لكننا نرفض أن تستدام الحداثة على الشاكلة المتهورة التي تنمو عليها اليوم. ومن أجل ذلك لا مفر من أن تنفتح الحداثة على الإسلام.

إنّ العقلانية، كما تحلّى بها المسيحيون، ولدت ونشأت بالانفصال عن العقيدة الدينية المسيحية دون سواها. ولولا ذلك الانفصال لَما قدروا على ترويض العقل قبل توظيف ملكاته إلى أقصى ما يكون الانتفاع والاستغلال. لكن الإنجاز العقلي بلغ اليوم ذروته بل وشرع في الانحسار إلى أن أضحت كل تعبيراته تقريبا مختزلة في المادة، من بترول وذهب ومال على وجه الخصوص. فنحن شاهدون على عقلانية المادة لا غير. وما الحداثة في نموها الحالي إلاّ تعبيرا، صادقا لا محالة، لكنه مختلّ، عن هذه العقلانية الناقصة، غير العاقلة.

بينما نحن "المتكلمون السالبون" للغة الإسلام الحنيف لنا حظوظ أوفر لبلوغ العقلانية الحقة، العاقلة. لنا حظوظ أوفر لتصحيح العقلانية المُسنِدة للحداثة. لماذا، لأننا من جهة كنا، وما زلنا، قادرين على إعمال العقل بواسطة العقل بغير دين. وهو ما حدث في حقبة العلمانية. ولأننا من جهة أخرى قادرون على إعمال العقل من صلب الدين الإسلامي، كما كان العمل في العصور الذهبية للأمة حيث إنّ الإسلام دين عقل وعلم. نحن إذن قادرون على التعقلن لا من باب واحد، كما هو حتمي وغير قابل للتراجع، في ثقافتهم، بل من بابين اثنين: باب العقل والعلم من جهة، وباب الدين من الجهة الثانية.

وهذا النمط من التقوية في التعقلن والعقلانية هو بالضبط ما يجدر أن تتم تنميته الآن لصالح الجميع، مسلمين كانوا أو مسيحيين أو غيرهم، وبوسائل مختلفة ومتجددة. وإلا فإن العولمة، الإمبراطور الأخير للحداثة المسيحية، ستأتي على الأخضر واليابس في تربتنا وفي تربتهم، عدا في حالة واحدة: لو تمّ توظيف العولمة كجهاز لتجسيد مبادئ عقيدة التوحيد في كافة المجالات، باللطف واللين والسلاسة والتفنن والحِرَفية التي عهدنا عليها أجدادنا والتي بقيت راسخة في مخزوننا الثقافي وفي ذاكرتنا الشعبية وفي العقل المجتمعي للأمة؛ شريطة أن يهتدي الخبراء إلى نفض الغبار عن تلك الكنوز بغير تعقيد ولا إسهاب في التفكيك التاريخي المملّ والمُهدر للطاقات وللوقت.

لمّا تسقط هكذا أسطورة العقل المطلق فلا داعي أن يكون العَودُ إلى الدين من الباب الصغير؛ لا داعي أن يرفع سماسرة ثقافة الوجْبات السريعة لواء المسيح، لا أمام ضمائر غير مسيحية وفي سياق مجرد من مقومات المناعة الثقافية الذاتية، ولا حتى أمام المؤمنين المسيحيين وهم الذين عبروا بعدُ عن عدم رضاهم بذلك، ناهيك أن من مصلحتنا ومصلحتهم ومصلحة غيرهم الانضواء تحت لواء العقل المعاصر. فدعُونا نتحرر كلنا، مسلمين ويهودا ونصارى، بغير مسيح.

محمد الحمار
(210)    هل أعجبتك المقالة (182)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي