يعود تاريخ إعداد الموازنة العامة للدولة بشكلها الحالي إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث طُبقت في إنكلترا ومنها انتقل التطبيق إلى فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر وامتد بعد ذلك إلى بقية دول العالم، وتعكس الموازنة العامة اليوم مجموع النشاط الاقتصادي والمالي للدولة، ويتم استخدامها كأداة من أدوات التوجيه الاقتصادي والمالي والاجتماعي لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
والموازنة هي الخطة المستقبلية لأي جهة سواء كانت إدارية أو اقتصادية أو مالية لما سيتم تنفيذه من مصاريف وإيرادات، أما الميزانية فهي عبارة عن خالصة الأعمال التي تمت خلال السنة السابقة وأحيانا تكون مرحلية أي يمكن أن تكون لمدة ثلاثة أشهر على سبيل المثال.
ويمكن تعريف عجز الموازنة بما يلي "أن تكون النفقات المتوقعة أكثر من الإيرادات المتوقعة، أما عجز الميزانية فهو وقوع ما هو متوقع بالنسبة للموازنة.
وفي سورية تم إعداد أول موازنة عامة عام 1923، ومنذ عام 1960 تم إعداد الموازنات العامة وفق مبادئ التخطيط المركزي واستمر ذلك حتى عام 2005م حيث تم الانتقال إلى مبادئ التخطيط التأشيري، كما تم تبني مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي، وبناءً عليه أصبح من الضروري إعادة النظر من جديد بطريقة إعداد الموازنة العامة للدولة لتكون أداة جديدة لإدارة الاقتصاد وإدارة القطاع العام من خلال منحه مزيداً من الاستقلالية والمرونة وتحميل إدارته المسؤولية في عملية التشغيل الاقتصادي.
وتنبع أهمية الموازنة العامة من خلال دورها المهم في تحقيق التشغيل الكامل والقضاء على البطالة وزيادة الناتج المحلي الإجمالي، وإعادة توزيع الدخل ورفع المستوى المعيشي للمواطنين وخلق طاقات إنتاجية جديدة في الوطن، وتُعتمد الموازنة العامة في سورية بقانون يصدر عن رئيس الجمهورية بعد إقرارها في مجلس الشعب بناءً على اعتماد مشروع القانون من مجلس الوزراء وهي تمثل القانون المالي السنوي الذي يقدر ويجيز لكل سنة ميلادية مجموع إيرادات الدولة ونفقاتها، وبقول آخر الموازنة العامة عبارة عن بيان بالإيرادات والنفقات العامة خلال السنة القادمة يتضمن برنامجاً ممثلاً بأرقام.
واعتمد مجلس الوزراء بجلسته المنعقدة بتاريخ 20/10/2009 أرقام موازنة العام الجاري 2010 بـ 754 مليار ليرة مقابل 685 ملياراً للعام 2009 أي بنسبة زيادة 10% عن العام الماضي، وقد كان نصيب الإنفاق الاستثماري المتوقع 327 ملياراً أي ما يعادل 43.4% من إجمالي الموازنة مقابل 56.6% للإنفاق الجاري.
ورغم أن ميزانية العام الحالي تُعد من أكبر الموازنات العامة في تاريخ الجمهورية العربية السورية حتى تاريخه من حيث حجم الاعتمادات، وخاصةً المخصصة للإنفاق الاستثماري إلا أن المهم من وجهة نظرنا هو حجم ما سينفق فعلياً من هذه الموازنة، والبرامج الزمنية للإنفاق الفعلي وعدم تأجيل الإنفاق حتى الثلث الأخير من السنة.
يتم توزيع الدخل الوطني بشكل مباشر على أجور العمال والموظفين وبشكل غير مباشر على التحكم بالسعر والضريبة والموازنة، والسعر هو عملية إعادة التوزيع بين الأجور والأرباح فرفع السعر يؤدي إلى إعادة التوزيع بين الأجور والأرباح لصالح الأرباح وتخفيضه يصب في صالح الأجور وبالتالي يبقى صاحب الربح هو صاحب السعر، أما الضريبة فباتت معروفة وتشير الأرقام الرسمية بأن نحو 11% من كتلة الأجور تعود إلى خزينة الدولة كضريبة على الأجور أما أصحاب الأرباح لا يدفعون سوى 0.6% كضريبة على أرباحهم وبالتالي يمكن القول إن أصحاب الدخول الفقيرة يدفعون الجزء الكبر من الضرائب، وما يدفعه القطاع العام من ضرائب أكثر بكثير ما يدفعه القطاع الخاص، أما الموازنة فهي الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة للمجتمع وإذا كانت هذه الخدمات في زيادة مستمرة وجودة عالية فهذا بالتأكيد يصب لمصلحة أصحاب الأجور.
عجز مقصود أم غير متحكم به؟
وبالنسبة للموازنة وفجوة العجز المتزايد فيها يمكننا القول إنها تعود لأحد أمرين: إما عجز مقصود أو عجز غير متحكم به، وكلاهما لا يصبان في المصلحة العامة، وفوضى الأرقام والإحصائيات التي تم عرضها خلال الفترات الماضية من الجهات الرسمية بخصوص حالة النمو الاقتصادي أحرجت الاقتصاديين وجعلتهم في حيرة من أمرهم، فمثلاً جرى التأكيد في أكثر من مناسبة على أنه تم تحقيق نمو جيد وهو في تزايد، وفي الوقت نفسه يصرح الفريق الاقتصادي ويصر على أن موارد الدولة في انخفاض، كيف يتم ذلك العلم عند الفريق الاقتصادي علماً أن الأرقام العربية والعالمية أشارت إلى انخفاض النمو في سورية!
الحكومة لا تنكر العجز
يقول النائب الاقتصادي عبد الله الدردري: «تظهر مؤشرات التجارة الخارجية أن نسبة الصادرات إلى الناتج أكبر مما هو مخطط بموجب سيناريوهات الخطة لكن مع ذلك كانت أيضاً نسبة الواردات إلى الناتج أعلى من المخطط أما عجز الميزان الجاري فكان في عام 2006 أقل مما هو مسموح في الخطة وإن كان تجاوز ذلك في عام 2007 وما سبق يعتبر استجابة لحالة الانفتاح وتحرير التجارة المتسارع الذي تشهده سورية، وقد تحسنت الموازنة غير النفطية نتيـجة زيادة الإيـرادات غيـر النفطية وفوائض الشركات العامة وهذا أدى إلى تراجع العجز من 11.65% عام 2005 إلى 10.94% عام 2006، أما في عام 2007 فقد بلغ العجز 7.99% ويعتبر هذا مؤشراً إيجابياً وذلك بسبب الاعتماد التدريجي على الإيرادات غير النفطية وزيادتها, أما في عام 2008 وحسب أرقام الموازنة فمن المتوقع أن يبلغ العجز ما نسبته 12.10% استناداً إلى الأرقام الأولية للناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية».
أكدت المصادر الحكومية والمالية أن التهرب الضريبي قد تراجع خلال عمر الخطة الخمسية العاشرة، لكن الملاحظ أن نسبة التحصيل الضريبي من حجم الموازنة العامة قد انخفض - حيث بلغت 66.5% عام 2008 و58.3% عام 2009 إلى 58.11% عام 2010 - وحسب الإحصائيات الرسمية أيضاً تُقدّر قيمة الضريبة المهربة بـ200 مليار ليرة، وما يتم تحصيله أصلاً من ضرائب أكثريته يتم تحصيله من القطاع العام، والسؤال المهم هنا أين هو القطاع الخاص وضرائبه التي يجب أن تساهم في التنمية الشاملة.. إن التهرب الضريبي لكبار التجار والمستثمرين لا يجب السكوت عنه مهما كانت الأسباب والظروف.
العجز 131 ملياراً
لقد ارتفع العجز في الميزان التجاري السوري من 36 مليار ليرة عام 2008 إلى نحو 131 ملياراً عام 2009، وما يتم الحديث عنه بخصوص نسبة النمو من 4 إلى 5% خلال تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة، لم ينعكس على الرواتب والأجور، قياساً بالأسعار الرابحة للسوق، وحسب الأرقام الإحصائية الرسمية فإن متوسط الأجور الشهرية للقطاع غير المنظم تقارب 9000 ليرة وهي تشكل 40% من قوة العمل السورية، ورفع رواتب المتقاعدين إلى 6010 ليرات هو إقرار حكومي صريح بوجود ما يقارب 60 ألف متقاعد يعيشون تحت خط الفقر، أما رواتب العاملين في الدولة فهي بعيدة كل البعد عن سقف الرواتب الذي طرحه رئيس مجلس الوزراء وهي متدنية الآن ولا تسد الرمق.
وفي حديث لرئيس مجلس الوزراء المهندس محمد ناجي العطري مؤخراً قال: «إن تحسين الظروف المعيشية وزيادة الرواتب والأجور للعاملين إلى المستوى الذي يتوافق مع تكاليف المعيشة ومستوى الأسعار هو في مقدمة الأهداف التي تسعى الحكومة إلى تحقيقها» وأشار الى أن بند الرواتب والأجور يعادل ثلث الموازنة العامة للدولة البالغة 750 مليار ليرة أي 250 ملياراً.
كما أشار عطري إلى أن الحديث عن زيادة 10٪ على الرواتب والأجور يعني الحديث عن 25 ملياراً يجب تأمينها لتغطية هذه الزيادة وأن الحديث عن 20٪ يعني الحديث عن 50 ملياراً مؤكداً أن الحكومة تبذل جهودها للإيفاء بما وعدت به من زيادة على هذه الرواتب والأجور خلال الخطة الخمسية العاشرة والاستجابة لهذا الطلب يتطلب توفير متطلباته.
لا يمكن لأي زيادة متواضعة مثل 10% كزيادة على الأجور أن تردم الفجوة الكبيرة والعميقة بين الأجور والأسعار وسيتم امتصاص أي زيادة على الأجور قبل أن تصل إلى الجيوب، ولذلك يجب اتخاذ إجراءات سريعة والبحث عن المصادر الحقيقية لتمويل أي زيادة محتملة على الأجور.
ليس كل ما يلمع استثماراً
والمطلوب هو إعادة النظر في العديد من القوانين الاقتصادية التي أوصلت البلاد إلى هذه الحالة الاقتصادية الموصوفة بالركود والتضخم، ولا يمكن تحقيق نسب نمو حقيقية من مصادر غير حقيقية، والنمو الحقيقي الرئيسي يستند على قوة الصناعة والزراعة والإنتاج السلعي «قطاع عام صناعي وزراعي» ومكافحة التهرب الضريبي، ومحاربة المتهربين من الضرائب وفضحهم ومكافحة الفساد وعلى جميع المستويات، ويخطئ من يظن بأنه وعبر الاستثمارات الخارجية وتشجيع السياحة والمشاريع الريعية سيحقق نسب النمو المطلوبة؛ لأن المصادر الرئيسية في تحقيق أي نمو مستدام تكون عادة من مصادر الداخل لا الخارج.
العجز في الميزانية.. إلى أين؟
الراي
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية