وصل الاقتصاد ومعيشة السوريين، مع نهاية عام 2022، إلى المرحلة الأقسى منذ إعلان الثورة عام 2011، بعد أن تضاعفت المعيشة ثمانين مرة بحسب تقرير رسمي "اتحاد العمال".
ووصل متوسط إنفاق الأسرة نحو "2.1 مليون ليرة" أيضاً بحسب مصادر رسمية سورية، في حين لا يزيد متوسط الأجور عن 100 ألف ليرة سورية.
ليأتي، شح ونفاد المشتقات النفطية، مع نهاية العام، كضربة إضافية للسكان والقطاعات المنتجة، بعد أن وصل سعر ليتر المازوت نحو 11 ألف ليرة وسجل البنزين 15 ألفاً.
ولعل تهاوي سعر صرف العملة السورية إلى نحو 7200 ليرة، خلال الأيام الأخيرة من عام 2022، السبب الأبرز بتعرية نظام بشار الأسد الذي انسحب من حماية ودعم الليرة، فضلاً عن انسحاب المؤسسات الحكومية من المنافسة بالأسواق ومحاولة ضبط الأسعار.
ليأتي تربع سوريا، آخر العام، بلقب الأكثر فساداً بحسب ملف المخاطر العالمية، بعد تصنيف عاصمة الأمويين دمشق، أسوأ مدن العالم معيشة وفق تصنيف وحدة المعلومات الاقتصادية في مجموعة "إيكونوميست" البريطانية، كاكتمال لعقد مساعي نظام بشار الأسد بتهديم سوريا، حاضراً ومستقبلاً وإتمام الدور الوظيفي الموكل إليه، بحسب سوريين.
يؤثر غير سوري متخصص تحدثنا إليهم على وصف تهاوي العملة السورية بـ"اللعبة"، فالمحلل المالي "علي الشامي" يرى أن قائد اللعبة هو مصرف سوريا المركزي، ولديه لاعبون أهمهم شركات الصيرفة، معتبراً أن هذه اللعبة تعود بالفائدة على نظام بشار الأسد وتمده بسبل الاستمرار، لأن المصرف المركزي أكبر المضاربين بالسوق.
ويرى الاقتصادي "عبد الناصر الجاسم" أن "اللعبة" تتجلى بتعدد أسعار الصرف "أربعة أسعار في سوريا"، مشيراً إلى دور الحوالات الخارجية باللعبة التي يرى "أبشع صورها اليوم، عبر ابتزاز التجار والزامهم بدفع ثمن المستوردات مرتين" من خلال "لعبة الليرة".
ولم يبتعد الاقتصادي "حسين جميل" كثيراً، وإن أضاف أن "هذه اللعبة عرّت النظام وقلبت السحر على الساحر"، حسب قوله، غير مستبعد أن يبدأ تهاوي الدولة وإفلاس المؤسسات، من بوابة الاقتصاد وتحديداً من الليرة السورية.
ويجمع هؤلاء أن العملة السورية، وجراء "كثر اللعب بها وعليها" فقدت قيمتها ولم تعد مقبولة للتعامل خارج الحدود "في المناطق المحررة غير مقبولة واستبدلت بالعملة التركية والأمريكية" لأن عوامل استقرار النقد، بحسب تصريح "علي الشامي" لـ"زمان الوصل" جميعها تلاشت بسوريا، وربما أهمها وأكثرها دعماً للعملة، هو نفاد الاحتياطي من المصرف المركزي بدمشق، والذي ناف عام 2011 عن 18 مليار دولار، قبل أن يتراجع عام 2016، بحسب البنك الدولي إلى 700 مليون دولار، وتنفد الاحتياطيات منذ عامين "إلا من بعض الإتاوات التي يفرضها النظام بالدولار على رجال الأعمال".
بدوره الاقتصادي "الجاسم" يرى أن "انقلاب الميزان التجاري" هو أهم أسباب تعرية الليرة، فبعد أن كان النفط، على سبيل المثال، بعود للخزينة بعائدات تصدير نحو 150 ألف برميل نفط يومياً، تحول إلى أكثر مستنزف للقطع الأجنبي، مضيفاً، وكذا بالنسبة للمحاصيل الزراعية والمواد الأولية، الأمر الذي أوقع التجارة الخارجية بعجز زاد عن 6 مليارات يورو عام 2021.
في حين بسّط "جميل" الأمر بقوله "القصة بالنهاية عرض وطلب" فالليرة التي تطبع بموسكو من دون تغطية وإنتاج ومعادلات، أغرقت السوق، وذلك بالوقت الذي تزداد تهاوياً، ما دفع، حتى صغار المكتنزين لهجرتها إلى الذهب والعملات الرئيسية، متوقعاً أن يستمر الانهيار عام 2023 بواقع وصفه "زيادة انغلاق أي أفق واستمرار تدمير البنى الاقتصادية".
وصلت الليرة السورية إلى أدنى مستوى على الإطلاق بعد تسجيل الدولار نحو 6850 ليرة، لتقترب خسائر قيمة الليرة من 50% خلال عام 2022 الذي دخلته العملة السورية بنحو 3500 ليرة للدولار الواحد، في حين لم يزل مصرف سورية المركزي يثبّت السعر الذي رفعه في 6 كانون الأول ديسمبر/2022، من 2814 إلى 3015 ليرة للدولار، مخفضاً سعر الليرة بنحو 7% وقتذاك، ليبدأ بعد ذاك مشوار التهاوي السريع، إثر استشعار المتعاملين بانسحاب "المركزي" من دعم الليرة وانقياده للسوق، بعد التوقف عن التدخل المباشر وبيع الدولار كما كان يفعل خلال أعوام الثورة الأولى.
ويقول الاقتصادي "عبد الناصر الجاسم" إن عام 2022 الذي شهد تهاوي سعر الليرة، خاصة بعد شهر آب أغسطس الذي أوصل الدولار نحو 4500 ليرة، لتستمر بعده سلسلة التهاوي، يعتبر العام الأكثر استيراداً للقمح والمشتقات النفطية، ما يعني تبديد القطع الأجنبي "القليل أصلاً" بالسوق والمصرف المركزي، ولكن بالمقابل، لم يكن من صادرات أو سياحة، تعادل فاقد العملات الأجنبية بالسوق، الأمر الذي أخلّ بالمعروض النقدي بواقع اكتفاء السلطة النقدية بالمراقبة وعدم التدخل، إلا من خلال قرارات القمع والملاحقة والتي تزيد مخاوف المكتنزين وتزيد العامل النفسي الذي رآه "الجاسم" حاسما وخاصة بمراحل الانهيار.
بدروه يرى "حسين جميل" أن "عوامل كثيرة اجتمعت عام 2022" منها سياسية واقتصادية وحتى دولية، مشيراً إلى دور ما نشرته وكالة "أسوشيتد برس" حول إفلاس مصرف سوريا المركزي، خلال شهر كانون الأول ديسمبر الجاري، وعدم قدرة نظام الأسد على تسديد الأجور خلال الأشهر المقبلة، مستدلاً أن قفزات التهاوي الكبيرة جاءت بعد أنباء الإفلاس.
ويضيف الاقتصادي السوري أن الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك، بعد تراجع الزراعية وتهديم الصناعة، وبالتالي بين التصدير والإنتاج، جاءت عوامل"حقيقية على الأرض" وأسباب مبررة لتراجع سعر الصرف، خاصة أن نظام الأسد يموّل الموازنة العامة بالعجز ويزيد طباعة العملة السورية لتسديد الأجور وثمن المحاصيل الزراعية.
ويذهب المحلل "علي الشامي" إلى ما وصفه غياب مولدات القطع الأجنبي، من"عدمية الاستثمارات الأجنبية" بالتوازي مع هروب الاستثمارات ورجال الأعمال وهجرة المنشآت، بالتوازي مع زيادة المستوردات وتراجع الصادرات.
ويلفت "الشامي" إلى دور ما أسماه انسحاب حلفاء نظام الأسد من تمويله، سواء توقف خطوط الائتمان الإيرانية التي "سندت المستوردات خلال السنوات الماضية"، أو ما قيل عن امتناع روسيا إقراض الأسد، بل والمطالبة بضمانات القروض السابقة، لأن في ذلك، حسب "الشامي"، مزيدا من تعظيم الأثر النفسي وبالتالي زيادة تهاوي سعر العملة.
يضع سوريون سبب رفع حكومة بشار الأسد، أخيراً، أسعار المشتقات النفطية "المازوت إلى 3 آلاف ليرة والبنزين إلى 4900"، بمقدمة الأسباب التي زادت ارتفاع الأسعار وساهمت بتهاوي سعر الصرف بنهاية عام 2022، معتبرين أن زيادة تكاليف الإنتاج الزراعي والصناعي، بعد رفع مكوّن الطاقة، ألزم المنتجين على رفع أسعار المنتج النهائي.
وبحسب تصريحات عضو لجنة تجار ومصدري الخضر والفواكه في دمشق، "محمد العقاد" الذي أشار إلى أن أجرة نقل السيارة المحملة بالحمضيات والفواكه من الساحل إلى دمشق وصلت إلى 1.200 مليون ليرة، في حين لم يزد على 400 ألف ليرة قبل شهرين، نتيجة شراء المازوت من السوق السوداء بسعر تجاوز 10 آلاف ليرة سورية لليتر الواحد، وهي بازدياد مستمر مبيناً أن هذه التكاليف بكل تأكيد ستضاف إلى سعر البضاعة التي أصبحت تكلفة نقل الكيلو الواحد منها تصل إلى 200 ليرة سورية، وكل سيارة فيها 7 أطنان.
وفاقم استمرار شح المحروقات، وارتفاع سعرها بالسوق الحر إلى ضعف الرسمي، بزيادة الطلب والأسعار، لتبلغ نسبة ارتفاع الأسعار خلال شهر كانون الأول ديسمبر فقط، أكثر من 30% بحسب المحلل "علي الشامي"، وتزيد نسبة ارتفاع الأسعار بالسوق السورية عن 150% خلال العام.
ويلفت "الشامي" إلى زيادة ملامح الركود بالسوق السورية بسبب تراجع القدرة الشرائية، لكن ذلك لم يكسر الأسعار برأيه، لأن العرض بالمقابل تراجع كثيراً، سواء الانتاج المحلي أو المستوردات الخارجية، مشيراً إلى وصول سعر كيلو السكر إلى نحو 6500 ليرة والأرز 6300 ليرة وارتفاع أسعار مشتقات الألبان بأكثر من 40% خلال الشهر الأخير، مع تراجع طفيف بأسعار الخضر والفواكه، بسبب تراجع التصدير جراء التعقيد الحكومي وشح المحروقات "لكن الأسعار لم تزل أعلى من قدرة المستهلك الشرائية"، فسعر كيلو البندورة نحو 2500 ليرة والبطاطا 2000 ليرة والكوسا 3500 ليرة، لتبقى أسعار اللحوم بخانة الأماني للسوريين، بعد أن زاد سعر كيلو لحم الخروف عن 50 ألف ليرة وشرحات الدجاج عن 25 ألف ليرة.
وزادت أيام نهاية العام من أسعار الفواكه بالسوق السورية، فبحسب مؤقع "بزنس2" من دمشق، سجل سعر الموز 7600 ليرة وفريز 5500 ليرة والتفاح 2500 ليرة والرمان 3500 ليرة سورية.
بمعنى الكلمة، دخل أكثر من 90% من السوريين بدوامة الفقر، بعد التباين السحيق بين الدخل والانفاق وانفلات الأسواق بواقع غياب الرقابة واستغلال بعض التجار، واقع الطلب وتصاعد الأسعار.
ويقول الاقتصادي السوري "عبد الناصر الجاسم" إن تهاوي سعر صرف الليرة "ليس كل المشكلة"، إذ قد تكون العملة رخيصة، ولكن الدخل مرتفع، ولكن في سوريا لا يزيد متوسط الأجور عن 100 ألف ليرة في حين تصل المصاريف الشهرية للأسرة، نحو 3 مليون ليرة، الأمر الذي زاد نسبة الفقراء إلى أكثر من 90% من السكان، معتبراً خلال حديثه أن التحويلات الخارجية هي الدخل الوحيد الذي يبقي السوريين على قيد الحياة والإنفاق.
بالمقابل، يشير أمين الشؤون الاقتصادية في الاتحاد العام لنقابات العمال، "طلال عليوي" خلال تقرير رسمي قبل أيام، إلى أن الأسواق السورية شهدت ارتفاعاً كبيراً في الأسعار من دون مبررات حقيقية، كما شهدت ارتفاعاً في أسعار الأدوية وانقطاعاً في بعض المواد نتيجة احتكارها كالزيت، وتواصل الأسعار ارتفاعها من دون وضع حدّ لهذا الارتفاع بسبب تبريرات البعض بأنَّ الارتفاع عالمي.
ويضيف "عليوي" أن هناك عدة عوامل أدّت إلى رفع مؤشر تكاليف الحياة لأكثر من ثمانين ضعفاً خلال سنوات الحرب، إذ باتت تحتاج الأسرة المكونة من 5 أشخاص من (1.5-2) مليون ليرة لسدّ نفقات معيشتها وتراجعت القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود بنسبة تزيد عن 90% بسبب الارتفاعات الكبيرة في الأسعار التي وصلت إلى مستويات تجاوزت نسبها 100 ضعف عما كانت عليه قبل الحرب.
ليس من بارقة أمل أمام السوريين بالعام الجديد، بواقع انسداد الأفق السياسي إلى من بعض محاولات موسكو تعويم النظام عبر طوق النجاة التركي.
إذ يسيطر فقدان الأمل بأي انفراج على السوريين، بواقع ما يصفونه الاتفاق الدولي على بقاء الاستنزاف وعدم اتخاذ قرار أي حل، بالتوازي مع تراجع عرض المواد وغلاء الأسعار وما يصفونه تخبط وانسحاب الحكومة، سواء باستمرار دعم المحروقات والسلع، أو حتى تأمينها، بعد إيلاء نظام الأسد الشركات الخاصة مهام استيراد القمح والمحروقات وتوزيعها بالسوق بأسعار خاصة.
ونقلت صحيفة "البعث" الناطقة باسم الحزب الحاكم بدمشق، إحباطات السوريين عبر سؤالهم "ماذا ينتظرنا بالعام الجديد"، معتبرة أن "كل المؤشرات التي تتحفنا بها الجهات العامة والخاصة تبشرنا بأن ما ينتظرنا في عام 2023 ليس كما نشتهي".
وقالت الصحيفة إن العام الجديد سيكون في غاية القسوة والإحباط، طالما الشغل الشاغل لتلك الجهات، على مدار الساعة، رفع أسعار المحروقات وجميع السلع الغذائية من جهة، وتخفيض القدرة الشرائية للعاملين بأجر من جهة ثانية" عام 2022، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول لخلفه عام 2023: أسلمك أمانة ملايين العاملين بأجر فلا ترحمهم".
عدنان عبد الرزاق - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية