أعادت حادثة مقتل الإعلامي "عاطف الساعدي"، قبل أيام في مدينة درعا، الحديث عن مصير عدد ليس بالقليل من الناشطين الذين اختاروا البقاء بعد بسط النظام سطوته على الجنوب، ليجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها هدفا للتصفية، مدرجين على قوائم نظام الأسد، الذي ترك هذه المهمة لعملاء على ارتباط بالأفرع الأمنية وخلايا متطرفة نائمة حصلت على تسهيلات بالحركة والتنقل من قبل قادة الأفرع الأمنية، فأصبحت تصول وتجول في طول المحافظة وعرضها وتضرب في عقر المنازل بوضح النهار كل من يقول "لا" لسياسات النظام والتمدد الإيراني.
قبل مقتل "الساعدي" بيومين فقط، تعرض لمحاولة اغتيال أمام منزله في بلدة "المزيريب"، وأكد في تسجيلات صوتية أرسلها لأصدقائه، أن الفاعل خلايا تابعة لتنظيم "الدولة"، وهي لم تكن المحاولة الأولى إذ تعرض قبل شهور لمحاولة كادت أن تودي بحياته وبين الحادثتين عشرات رسائل التهديد وصلته على حساباته الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي تتوعده بالقتل، ومثل هذه الرسائل وصلت إلى من بقي وسبق له أن حمل كاميرا أو كتب أو تواصل مع وسائل الإعلام.
الاغتيالات التي تعد المشهد الأبرز في الجنوب السوري منذ سنوات، سبق وأن طالت الإعلامي "شادي السرحان" في مدينة "طفس"، و"يحيى المحمد" في بلدة "عدوان"، ما دفع من بقي في المحافظة التي يطلق عليها لقب "مهد الثورة" لمناشدة المنظمات الصحفية المحلية والدولية، من أجل تأمين "آلية نجاة"، تؤمن خروج آمن لهم من أتون فوضى أمنية منظمة، أسوة بعشرات الناشطين والإعلاميين الذين أدرجوا على القائمة "الطارئة" عام 2018 بعد سيطرة النظام على الجنوب السوري بدعم من روسيا وإيران وتوافق إقليمي ودولي.
الناشطون وجهوا رسائل فردية وجماعية إلى المنظمات التي تعنى بالدفاع عن الصحفيين، متسائلين عن أسباب تجاهل هذه المنظمات لمأساتهم وهل سيلقون مصير زملاء الأمس "عاطف وشادي ويحيى"، مؤكدين أنهم يعيشون بسجن كبير تنتشر فيه رائحة الموت في كل مكان.
الإعلامي "أحمد النووي" وهو اسم مستعار اختاره صاحبه خوفا من القتل والتصفية، أكد لـ"زمان الوصل" أنه وخلال سنوات التسوية الأولى كانت ترد بعض التهديدات للنشطاء عبر صفحاتهم بأسماء وهمية، تطورت حتى باتت شبه يومية لا تخلو من تنفيذ بالرصاص الحي أمام منازل الناشطين، وإن أخطأ بعضها لكن من المؤكد أنه لم يكن عبثيا، فهم الآن الهدف الأبرز في مشروع التصفيات حتى أكثر من قادة الفصائل والعاملين السابقين في المنظمات الإنسانية.
وشدد على أن "مناشدات الناشطين لم تعد تلقى اذانا صاغية"، مضيفا: "بتنا نتابع نعوات زملائنا عبر صفحات التواصل وما يصاحبها من تعليقات المتابعين والمترحمين، غير قادرين على مشاركتهم والترحم على صاحب النعوة، خشية ان نلفت انتباه القاتلين ونكون الهدف التالي".
الإعلامي "جواد أبو حمزة" أكد أن الناشطين هم الحلقة الأضعف والهدف الأبرز في دوامة الاغتيالات، لأن تعاملهم مع المخاطر يختلف عن المسلحين السابقين وقادة الفصائل، المدربين على القتال والمناورة والتنقل بحذر، وبالتالي قد يكون ذلك سببا في نجاتهم على خلاف الناشطين المحاربين والملاحقين من قبل النظام منذ اليوم الأول للثورة، فهم بعد عام 2018 أصبحوا بين فكي ميليشيات الأسد التي انتشرت في المنطقة وأعادت سيرتها الأولى في القتل والاعتقال والاستدعاء إلى الأفرع الأمنية.
على مدار سنوات الثورة السورية نشطت منظمة "مراسلون بلا حدود" الدولية، المعنية بالدفاع عن حرية وحقوق الصحفيين في دعم طلبات هجرة الصحفيين والإعلاميين إلى الدول الأوروبية، وكانت عاملا رئيسيا بمنح المئات منهم تأشيرات سفر، تمكنوا بموجبها من الحصول على اللجوء هم وعائلاتهم، كما ساعدت ماليا وقانونيا الصحفيين في دول الجوار السوري مثل لبنان وتركيا والأردن ومصر.
لكن المنظمة وغيرها من المنظمات السورية المحلية تؤكد اليوم في رسائلها للإعلاميين أن ظروف تواجدهم في الداخل السوري تحد من قدرتها على دعم طلبات الهجرة لأن سفارات الدول تتعامل مع المقيمين خارج سوريا بشكل أكبر، كما أنها لا تملك سلطة تفرض على الدول قبول أو رفض لجوء أي شخص على أراضيها.
الإعلامي "أبو حوران" قال لـ"زمان الوصل" إن الكثير من الناشطين اختاروا طرق النجاة الفردية بعد عجز المنظمات الدولية، فقسم منهم وصل إلى الشمال السوري والقسم الآخر إلى لبنان عبر شبكات تهريب اشترطت عليهم دفع مبالغ كبيرة وصلت إلى 15 ألف دولار، مشددا على أن البعض لم يقدر لهم الوصول، اعتقلوا أثناء مرورهم على حواجز النظام وأصبحوا في عداد المفقودين. وأضاف أن من يقصد الشمال السوري تكون تركيا الخطوة الثانية ومن بعدها أوروبا وهذا قد يكلف مبالغ كبيرة يعجر الإعلامي عن تأمين جزء بسيط منها، مشيرا إلى أن الوصول إلى لبنان أو تركيا لا يعتبر "بر الأمان المنشود"، فالخطر ما زال كبيرا أمام حالات الترحيل القسري إلى سوريا وما يعني الوقوع مجددا في براثن نظام الأسد وأفرعه الأمنية.
حوادث الاغتيال ليس الخطر الوحيد الذي يتربص بالناشطين، فالاعتقال في سجون الأسد يثير الرعب أكثر من حوادث القتل، لأن بشاعة التعذيب تجعل المرء يجرب الموت في كل ساعة، وكان النظام أبلغ في شهر أب/أغسطس الماضي، ذوي الإعلامي "أحمد تيسير العيسى الخطيب" وفاته في سجن "صيدنايا" سيئ الصيت، بعد اعتقال دام 3 أعوام، في وقت يقبع فيه آخرون بالسجون بعد أن وقعوا في فخ "التسوية"، ينظرون فرجا كبقية السوريين في الداخل والشتات.
محمد الحمادي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية