الثمن الباهظ للحرب سيدفعه العرب: ... د. فوزية عبد الله أبو خالد

بدا موقف بوكي مون يوم امس الاول 18/9 في الامم المتحدة ملتبساً بالتوسل والياس وهو يتحدث عن الاخطار المحدقة بما يسمونه منطقة الشرق الاوسط وازماته السياسية العسكرية في العراق ولبنان وفلسطين وسورية وتهديدات امريكا لايران ومقترحاته في التهدئة وكانه لم يبق للمؤسسة الدولية الا الدعاء في الموقف من امور يبدو انها فقدت زمام المبادرة علي مجرياتها في توجهات غير تلك التي يفرضها ميزان القوة العالمي الذي لا يفتأ ان يصوغها ضمن تحالفات تكتيكية متذبذبة ومصالح استراتيجية ثابتة. فها هي فرنسا تدخل علي خط المواجهات التصعيدية في المنطقة وكان رئيسها الجديد ساركوزي يريد ان يعوض ما فات بلاده باعادة انتاج موقع فرنسا الاستعماري في سيكوبيكو خاصة في ظل مؤشرات ما يبدو بانه برود بريطاني ـ امريكي بعد رحيل بلير عن مجلس الوزراء الانكليزي وما سرب عن انسحابات الجيش البريطاني من البصرة الي مطارها وبعض المناوشات بين قادة عسكريين بريطانيين وامريكيين.
ولم يبدُ موقف عمرو موسي في مساء نفس ذلك اليوم باحسن حالاً من موقف مون في عدم امتلاك قول غير الترديد بتردد ذات الاماني الطيبة بما لا يقل قنوطا واحباطا وتحييدا وهو يستقبل اسئلة الصحافيين فيما يخص عودة كوندوليزا رايس الي المنطقة لاخراج ما لم يتفق علي اسم خاص به.. (لقاء الشرق الاوسط الامريكي) المقترح من الرئيس الامريكي بعد اقتراب ولاية ادارته من نزعها الاخير.
ولا اظن ان المواقف في المنطقة نفسها ومن قبل اصحابها المعنيين مباشرة بشؤونها وشجونها وبما يلحق بها من دمار يومي او خراب تراكمي جراء الاحداث الجسيمة التي تجري لها طوعا او كرها كما حدث في احتلال العراق تستطيع ان تدعي تفاؤلا اكثر من موقف المؤسسة الدولية والجامعة العربية، كما لا اظن انها وهذا الانكي تتمتع باستقلالية اكبر عن مصالح القوة العظمي وارادات ادارتها وتوجهات المحافظين الجدد فيها نحو التوسع والتصعيد وحل الازمات بمزيد من التأزيم كما يحدث اليوم في فتح مزيد من النار علي المنطقة عن طريق ما يسمي بالملف النووي الايراني والتهديد بشن حرب علي ايران وبذر الفحم علي الجمر بفتح الباب لترسنة الخليج بصفقات الاسلحة الباهظة علي حساب مقدراته التنموية كما حدث ابان الحرب العراقية ـ الايرانية.
فامريكا التي تواجه ضغطاً داخلياً بالانسحاب من العراق بدأ يعلو ما كان خافتا من اصواته علي خلفية اقتراب موعد الانتخابات ونهاية ولاية بوش تعرف اكثر من غيرها حاجتها للانسحاب. وان بدا الامر وكأن موقف الانسحاب قد اخذ يتبلور في امريكا كمطلب سياسي مصاحب للتنافس الانتخابي فانه من السذاجة النظر اليه خارج استراتيجية المصالح الامريكية في المنطقة. وغني عن القول بان امريكا فيما لو فكرت جديا في موقف الانسحاب فانها لا تطرح ذلك بناء علي سقوط مزاعمها المريعة (بوعود تحويل العراق الي واحة للديموقراطية) في دوامة العنف اليومي و(زفت) الطائفية التي عملت القوات الامريكية علي اشعال فتيلها بجهد عسكري عشوائي ومنظم علي حد سواء من التحصيص السياسي علي اسس مذهبية الي التحصيص النفطي علي اساس اقليمي الي اخيرا التسليح العشائري حيث لم تترك خرما يمكن ان تفتحه في جدار الهوية العراقية التاريخي الا وشقته بكل ما اوتيت من قوة تشظية العراق وفتفته اقليميا ومذهبيا وعشائريا. فمن الواضح حتي لاكثر الناس استعماء ان امريكا لم تُقلب هذا الموقف/ موقف الانسحاب وتعيد تقليبه الا بعد ان استنفد وجودها العسكري في العراق اغراضه السياسية والاقتصادية وبدأ يصبح عبئا اخلاقيا تجاه جنودها وعبئا ماليا تجاه اقتصادها، وعبئا سياسيا وسع من سمعتها التسلطية السيئة في العالم، اذ يُشك باكثر من الشك انها تضرب حسابا لغير العبء الاعلامي تجاه كارثة قتل مليون عراقي ومحو استقرار بلاد الرافدين ووحدته لاجيال تأتي. غير ان امريكا بفتح احتمال الانسحاب لا تريد ان تخرج من العراق بنفس فضيحة فيتنام ان لم يكن امر كما انها لا تريد ان تنسحب وتترك الباب مفتوحا علي مصراعيه لتهديد ما انجزته من خراب حل دولة العراق وتحطيم تركيبة المجتمع بطرح بدائل من خارج هيمنتها. من هنا يظهر الملف النووي الايراني شرطا اوليا لجدولة الخروج سواء بتسوية مع ايران لاجبارها علي الابتعاد عن الولوغ في لعبة العراق او ان اقتضي الامر توجيه ضربة عسكرية لايران لتعطيل قدرتها علي ذلك. واذا كان هناك من يقدر ان امريكا بعد تورطها الوحلي في احتلال العراق وتفاقماته التي لم تكن في الحسبان سواء لجهة المقاومة التي لقيها الاحتلال او لجهة الانفلات الفوضوي للامور الامنية قد تتردد في تنفيذ تهديداتها لايران مع ما تعرفه من ان الدولة الاسلامية (المستأسدة)/ والمتسيدة في ايران ليست الديكتاتورية البعثية/العبثية التي كانت في العراق، فانه في ضوء ما تبديه اسرائيل من استعداد للعب دورها الدائم ككف قذرة في المنطقة لصالحها علي الاخص فكيف بالتقاء مصالحها مع حليفها الاستراتيجي في الموقف من ايران وكذلك في ضوء ما مر في شريط مواقف امريكية سابقة من عدم ممانعتها ان لم يكن ميلها لشن حروب او توجيه ضربات بالوكالة كما فعلت حين وكلت اثيوبيا في حملة المواجهات في الصومال وكذلك في التلويح بتكفيل الهند امر باكستان فان احتمال اللجوء الي التصعيد مع ايران بالوكالة الاسرائيلية وارد ليكون الدخان الذي يغطي الانسحاب الامريكي من العراق دون اعادته لاهله تماما ودون تركه نهبا لهيمنة غير الهيمنة الامريكية في اعادة ترسيم شرق اوسط جديد او كبير علي حد تعبيرهم..
وبما ان الثمن الباهظ لسيناريو مثل هذا الموقف لن يدفعه الا اهل المنطقة من لحمهم الحر بشريا واقتصاديا. وهو قد يضاهي اي مخاوف اخري وقد يعمم دمار العراق فان من المنطقي ان يكون هناك علي الاقل موقف عربي وخليجي واضح من تصاعد وتيرة الاحداث فيما يخص تهديدات ايران كما لا بد ان يكون في ايران موقف اكثر مسؤولية واكثر عقلانية من عنتريات التصريحات ليس علي اساس التسليم ولكن علي اساس مشتركات مصلحة المنطقة مع بعضها البعض. الا اننا خلافا لذلك لا نري من مواقف الجانبين المعنيين الموقف العربي والخليجي والموقف الايراني الا مواقف لا تستطيع ان تدفع عن المنطقة ما يتهددها من خطر ان لم تكن تكشف له ظهرها.
ونجد ان الموقف العربي والخليجي موزع بين مواقف باهتة كانها لا تعرف ما تريد او لا تدرك خطر انهيار سقف المعبد علي شمشون، ومواقف منقسمة في موازنات عدمية بين (مزايا واذي النجمة والهلال) وذلك ليس فقط علي مستوي من بيدهم مقاليد الامور، بل حتي علي مستوي الموقف السياسي في اواسط المثقفين الذين يفترض ان تتسم مواقفهم بعقلانية وبحس نقدي تحليلي. ويتباين الموقف علي المستوي العربي الرسمي والمثقفين في تداخل وتمفصل ثلاث نزعات او اكثر في المواقف ومنها:
1- موقف ينظر الي التهديدات الامريكية لايران من منطلق خطر استعادة الحلم الفارسي بفرض نفوذها علي المنطقة ويامل كما في المثل الشعبي ان يكون (بطيخ يناطح بعضه) ولمعرفة فعالية مخاوف هذا الموقف يمكن تذكر انه كان الهاجس والشعار الذي حدا بدول الخليج لتضع كل ثقلها المالي والموقفي في الحرب العراقية ـ الايرانية رغم استمرارها ثماني سنوات، وهو الامر الذي بُرر به عجز الخليج عسكريا عن مواجهة صدام حين انقلب علي الانظمة الخليجية عام 90 ـ 91. وكانت البداية التي فتحت باب التحالف العسكري مع امريكا ومجيء قوات التحالف الامريكي ونشر قواعدها العسكرية بالمنطقة. وهذا الموقف هو الاقرب للتعبير عن مخاوف تعتمل علي المستوي الرسمي بالمنطقة.
2- موقف التخوف المذهبي علي خلفية تنابذ وتحارب الاصوليات الطائفية تاريخيا في المنطقة وهو موقف يغذيه التعصب الديني وقواه باتجاهيه وان كان موقفا لا يمثل بالضرورة الموقف الرسمي لدول المنطقة.
3- موقف يرتبط بتاييد او مجاراة مشاريع التسوية بالمنطقة التي تري في ايران محورا يخالف هذا التوجه وبالتالي فان موقفها غير المعارض ان لم يكن المؤيد ضمنا او علنا لتهديدات امريكا لايران ينبع من مخاوفها من كل ما قد يساند او يشجع قوي الممانعة العربية والاسلامية وفي هذا لا يكون هناك تورع من اقحام حزب الله وحماس في الموقف من التهديدات بما يتوافق من حيث يدرون او لا يدرون مع موقف المحافظين الجدد في الادارة الامريكية واسرائيل.
4- طبعا هناك طيف من المواقف التي وان كانت لا تري في ايران في ظل واقعها السياسي القائم الحمل الوديع الا انها تستطيع ان تري انها ليس العدو وان هناك مشتركات تاريخية وحضارية ومصيرية يمكن استثمارها مع تحييد مرحليا علي الاقل ما لا يمكن التوافق بشانه وذلك تجنبا لخطر ماحق قد لا يبقي لا سمح الله ما يتماري علي تسميته بالخليج.
اما الموقف الايراني من التهديدات الامريكية فانه لا يقل تذبذبا وانقساما ويتوزع في عدد من التيارات والاجنحة المتصارعة او التي لا تخلو علاقتها من توترات الصراع ومنها:
1- موقف يمكن ان يشار اليه بحسب التعبير الماركسي باليسارية الطفولية في توجه بعض الفاعلين في الدولة الاسلامية. بما يتسم بتمركز ذاتي يتجاهل الظروف الموضوعية او لا يقدرها حق قدرها في القرارات لاتخاذ مواقف لا تساوم ولكنها في نفس الوقت لا تعبر عن تصلب في شرايين العقل والوقت.
2- موقف يذهب بعيدا في تحدي التورط الطائفي في العراق بالارتكاز علي ترسبات تاريخية في اطماع تحقيق الهيمنة الاقليمية (للهوية الفارسية) علي المنطقة ممزوجة بالهوية الاسلامية للدولة او باسمها.
3- مواقف لا تخلو من نزعات الهيمنة الاقليمية ان لم تكن هذه النزعة محركها الاساسي ولكن علي اساس المفاهيم المعاصرة للعبة المصالح العليا للدول خصوصا ما يكون منها قائماً علي اساس الانظمة الشمولية وصراعات النفوذ بينها مع الضرب بالحائط بالمحيط الاقليمي والدولي ومحدداته وشروط التواجد السلمي ضمنه او كجزء منه.
4- طبعا هناك ايضا كما في العالم العربي طيف آخر من المواقف الايرانية ومنها تلك التي وان كانت تري ان لها الحق في كسر التفرد الاسرائيلي النووي في المنطقة فانها تقيم وزنا لشروط التوازنات السلمية بما يحفظ استقرار المنطقة السياسي والاقتصادي والعسكري وحرمة الجوار. واخيرا هل يحتاج اجتراح موقف مبدئي يحفظ للمنطقة امنها واستقلالها ان نقول انه لا بد من وقفة مصارحة شجاعة وقاسية بين دول المنطقة علي تباين انظمتها وبينها وبين شعوبها بتعدد مشاربها تعترف ان ما مرت به المنطقة من كوارث للمرحلة الماضية قد لا يكون الا عينة من الرعب الفادح المحتمل اذا لم نغير ما بانفسنا ونغير علاقتنا بها وببعضنا البعض علي اساس القواسم المصيرية المشتركة في بعدها التاريخي الحضاري وفي تعالقها المستقبلي. هذا ولله الامر من قبل ومن بعد.

كاتبة وشاعرة وأكاديمية من السعودية

Fowziyah@maktoob.com
(159)    هل أعجبتك المقالة (155)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي