أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الفنان التشكيلي السوري "خليل عبد القادر" لـ"زمان الوصل: أنا سليل هذه الأشياء كلها وأبنها الملوّن

عبد القادر

في معرضه الجديد الذي يقام في مدينة ساندفيكن السويدية هذه الأيام يسعى الفنان التشكيلي السوري "خليل عبد القادر" إلى خلق عالم تشكيليّ مواز لخصوصيته اللونية والروحية والحياتية، وليضيف على المشهد تعبيريّة أعمق، متخطياً بذلك المستوى الحرفي المثقل بالمضامين العقليّة في لوحة نزعت عن نفسها زينة المشهد.

ويضم المعرض الذي تستضيفه صالة الفنون" konsthallen" بمدينة " Sanviken" السويديّة 132 لوحة يبدو فيها مدهشاً باستنطاق شخوصه التي تسبح في غلالة شفافة من الضوء واللون، وإن كان يبدو أن هناك تشابهاً في بعض أعماله التي يحاول الوصول فيها إلى نقطة واحدة محددة عبر سلسلة من التجارب، وهذا لا ينطبق على التشكيل في المساحات والاشتغال على الفراغ فحسب، وإنما على الألوان أيضاً التي يعالجها بروحانية تأملية نلمسها "منسوجة" على قماش اللوحة ويرى قادر أن تكنيكه الفني هذا هو الخميرة التي يعجن فيها ألوانه ويستخلص منها ملامح عوالمه شكل قامات نسائه ودرجات اللون وهو يغيب ويحضر غائماَ، شغوفاَ، غامقاَ فاتحاَ أو نحيفاَ، أو ربما كتوماَ مثل سرّ شجرة رمّان أو خوخ تمكثان هناك!

وُلد الفنان التشكيلي خليل عبد القادر في قرية من قرى الكُرد في شمالي سوريا "حسي أوسو" عام 1955، على خط التماس بين سوريا وتركيا، كانت أشجارُها تنحني باتجاه النهر. كبر، وكبرتْ معها أحلامه، وكان كما يروي لـ"زمان الوصل" يرسم بالطباشير الخطوط الأولى على الصخور السوداء، يتركها لتجفَّ تحت شمس المكان الحارق، ويستدرك الفنان القادم من ضفاف الخابور وكأنه يرسم لوحة غارقة في اللون والضوء أن أشجار الليمون كانت تزهر في الربيع، وتميل بخجلٍ على سور بيتنا الطيني.

ويستذكر عبد القادر جوانب من طفولته البائسة خارج خط المطر في قريته الغارقة في العتمة، حيث لا طبيب في المكان، ولم يكن أهلها يعرفون من الأدوية سوى البابونج وبعض الأعشاب البرّيّة على شكل ترياق للمرض. وكانت القريةُ مصيدة للعتمة، تربة رمادية وحمراء، ولا يرانا إلا الله، وكأنّ السماء آيلة للسقوط على رؤوسنا!".

ألتقط من السماء غيمة
ويسترجع محدثنا جوانب من طفولته بلغته التي تشبه الرسم بالكلمات: "كُنّا صغاراَ، نتقاذف الهواء، ونمشي بأرجلنا المتعبة في الثلج، أعيننا مشدودة إلى السماء، ونمسح في زمهرير البرد مخاطنا بأكمام أثوابنا الممزقة، كُنّا نتجه صوب المدرسة، لنتعلمَ لغةً، ليست لغتنا، لاتشبهنا ولانشبهها؛ لغة غريبة مزخرفة بعلوم الماء والسماء.وأردف أنه كان يجمع الحصى من بيارات القرية ويلتقط من السماء غيمة، ليجمع أجزاء اللوحة مع حفنة رمل ناعم، فيرسم شاطئاَ رمليّاَ من حرارة يده الصغيرتين، وهي تعبث بمايجول في خيال صبي لم يتجاوز العاشرة بعد.

في الصف الأول الإعدادي 1967، انتقلتْ عائلة عبد القادر إلى مدينة "الحسكة"، وسكنّوا في حي "تل حجر"، حيث يقطن فيه الفقراء من العتالين وماسحي الأحذية وبائعي البوظة في الصيف، وصاروا من خيرة أصدقائه الأولين في المدينة، وكانت بداية علاقته باللون الزيتي-كما يقول- حين اشترى علبة ألوان، وصنع جارهم النجار صانع آلات الطمبورة، أول إطار خشبي له واستعان بخامة كانت تستخدمها والدته كستائر للنوافذ، لتقيهم من حر الصيف كي يصنع منصباً للرسم، ويتذكر محدثنا أنه رسم حينها على ضفاف نهر الخابور أول لوحة طبيعة، وهي عبارة عن حقل قمح على مقربة من النهر، وناعورة ترفع الماء إلى الأعلى، وفي المشهد الخلفي بستان "مراد موري"، بأشجاره الكثيفة، وسماء صافية، وبضعة سحب فضّيّة، وميلان حقل القمح بسبب الرياح الغربيّة المنعشة.

الرسم على جدران المعسكر
أقام خليل عبد القادر معرضه الأول في مدينة مصياف عام 1975 حيث كان يخدم هناك في الجيش الإلزامي، ويتذكر أنه كان يرسم على جدران المعسكر، وعلى خيم العسكر قوافل من النساء في حركات مثل خيول جامحة، وهن يكشفن عن جمالهن، وكأنهن يتسلقن أغصان الياسمين في ضجيج المسرة. متجاهلاً في ذلك كل الخطوط الحمراء، التي كانت تسوّر عقلية المجتمع آنذاك.

وكان عليه بعد ذلك أن ينتقل إلى لؤلؤة الصحراء مدينة تدمر حيث قضى بين صخورها أعوام 1975 ـ 1979، ويضيف أنه تعرف على المدينة التليدة: صخورها، معابدها، مغاورها، بساتين النخيل والسائحات الشقراوات القادمات من مدن الضياء، وهناك كانت بدايته وتجربته مع اللون البني وتدرجاته، :"رسمتُ به أسرار دهشة المكان والتضاريس الوعرة للمدن القديمة الغائرة في زهو التاريخ، إلى جانب ذلك السجن الرهيب، سجن تدمر، إلى أعالي حدود الشهوة، وبزلال بارد ومتوهج، كانت رسوماتي الأولى، أعراس ومآتم، كائنات من فرح، وبإشارات خاطفة وباللون الأسود أعلنتُ عن قيامة أكيدة".

وألمح محدثنا إلى أن اللوحة كانت بالنسبة له آنذاك مثابة مكان للرقص، وهي تستفزه ، فيذهب برجليه إلى جحيم مشهدها، وكانت شخوصه، وكائناته يعيشون خارج الأرض والسماء، أعماقهم غامضة، وكأنها كنه استهزاء وسخرية كقيمة جمالية لِما كان يحدث من حوله في ذلك الوقت: " كائنات حيّة، تعشق وتكره، تتمرد، تقاوم وتتنفس بعمق الإحساس الآدمي، تنظر إلي بعيون ثاقبة، تتحرك، وكأنني أسمع أصوات أقدامها وهي تخرج من اللوحة".

مناخات غامضة
ونوّه المصدر إلى أن اللوحة عنده هي مغامرة الحرية، والوحدة عبء غير محتمل، ولأن حاجة الإنسان إلى الماء لم تتغير، لا يهمه في إنشاء اللوحة-كما يقول- أن يستخدم الإنسان في حياته المحراث اليدوي، أو يركب الصاروخ لحضور عرض أزياء في باريس ولندن "أعلم جيداً أن كيمياء اللون هو رحم الأرض، وكيمياء الموت أن تنشر الجثث على حبل غسيل، لذا أتحاشى الاختيار الصادق، وأسكن الهروب الحر، خوفاً أن يشوب اللون غبار المكان، أنا سليل هذه الأشياء كلها، وإبنها الملوّن.

وعن علاقته بشخوصه والوشائج المضمرة بينهما أشار عبد القادر إلى أنه اعتاد على الذهاب إلى شخوصه التي يلفها الغمام في كل حدث ملحمي لينسج الحكاية من جديد حكاية اللامنطق في مصيرنا الذي اخترناه لأنفسنا، ثم أبت أعيننا أن تنام، ونحن نقف على حافة اليقين في كل شيء. هي البلاغة المفضوحة. وأردف أن الفراغ يأخذه إلى الفراغ، وهو يخفي الخطيئة في رسوماته عن هول هذا العالم القبيح.

المستوى الحرفي وزينة المشهد
وحول ميله إلى الاهتمام بالتفاصيل التي تستوطن أجساد شخوصه وما الذي يعنيه له هذا الأمر أوضح الفنان المقيم في مدينة Gävle" السويديّة أنه لا يميل إلى الدقّة في إظهار التفاصيل الواقعيّة، لكنه يذهب إلى الأمكنة الأكثر تعبيريّة في الجسد، لتأكيد الرؤية الأولى، واللجوء إلى التحوير والإختزال، مبسطاّ بذلك سمات ورموز ودلالت هذا الشكل، أو ذاك التعبيري، وإيجاد الحلول في البناء، دون الخوض في ظواهر الأشياء، لخلق عالم تشكيليّ مواز لخصوصيتي اللونية والروحية والحياتية، ولأضيف على المشهد تعبيريّة أعمق، وأتخطى بذلك المستوى الحرفي المثقل بالمضامين العقليّة في لوحة نزعت عن نفسها زينة المشهد.

ومن المقرر أن يعرض خليل عبد القادر في سبعة مدن سويديّة وبمجموعة أعمال تتجاوز الـ 472 عملاَ من القياسات المختلفة، حيث كتبت الصحافة السويدية عن معرضه الأول بعنوان عريض: خليل عبد القادر يغزو مدينة ساندفيكن لونيّاَ ويعرض في مبنى بالكامل مساحته يتجاوز ال 2000 متر مربع.

فارس الرفاعي - زمان الوصل
(144)    هل أعجبتك المقالة (304)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي