يسعى الباحث السوري "طارق عزيزة" من خلال كتابه "الثقب الأسود" الصادر حديثاً عن دار "ابن رشد" للنشر والتوزيع في إسطنبول إلى تشريح ما بات يُعرف بـ"أسلمة الثورة" ودراسة ملفات الإسلاميين فيها متناولاً موقعهم ودورهم في هذه الثورة بمختلف خلفياتهم الدينية والسياسية وما نتج عن هذا الدور من نتائج كارثية، وعجزهم عن طرح البديل المقنع لمجتمع قدّم التضحيات الجسام مما أدى إلى إجهاض الثورة وتعثر مساعي السوريين لتغيير واقعهم.
وينحدر طارق عزيزة، من مدينة اللاذقية 1982، درس الحقوق في جامعة دمشق وتخرّج سنة 2006، وبعد أن أدى "الخدمة الإلزامية" خلال عامي 2007 – 2008 توجه لاحتراف الكتابة منذ العام 2009، وتعاون مع العديد من الصحف والمجلات ومراكز الأبحاث بصفته كاتباً وباحثاً مستقلاً، كما عمل أستاذاً للتاريخ المعاصر في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى - ifpo في بيروت، ضمن برنامج اللغة العربية لغير الناطقين بها، حتى أواخر عام 2014، حيث انتقل للعيش في ألمانيا.
وصدر له إضافة إلى كتاب "الثقب الأسود" العديد من المؤلّفات، منها العلمانية (2014)، جبهة النصرة لأهل الشام (2013)، ومع آخرين: ياسين الحافظ معاصرًا (2015)، استراتيجية سلطة الاستبداد في مواجهة الثورة السورية (2014)، وغيرها.
وحول فكرة كتابه الجديد ودوافع تأليفه أشار عزيزة في حديث لـ"زمان الوصل" إلى أن كتابه لم يأت نتيجة تخطيط مسبق، وإنما حصيلة تراكمية لبعض ما كتبه عن الموضوع خلال سنوات الثورة ثم الحرب في سوريا، مضيفاً أنه تناول في العديد من الدراسات والمقالات مسائل تتعلّق بالإسلاميين (بسياسييهم ومقاتليهم) ودورهم في الثورة السورية بصورة نقدية، ورصدَ مسار "أسلمة الثورة" وسلوك قوى الأمر الواقع الإسلامية في مناطق سيطرتها، وكيف أدى ذلك بالمجمل إلى دعم جهود النظام وحلفائه في تشويه الثورة وإجهاضها. كما بحثَ في موضوع الطائفية وارتباطها بالتوظيف السياسي للدين في المجتمع السوري لدى نظام الأسد والإسلاميين، قبل الثورة وبعدها، وغير ذلك من المسائل المتصلة.
ومع الوقت رأى –حسب قوله- أن من الأفضل جمع تلك المقالات والدراسات ضمن كتاب واحد، نظراً لتكامل موضوعها واستمرار مفاعيله من جهة، وكذلك لأنّ بعضها نُشر في منابر لم تعد موجودة وحُذف أرشيفها من الانترنت. وباعتبار أنّ مواد الكتاب تعود إلى مراحل مختلفة شهدت ظروفاً متبدّلة، كان لا بد من إعادة تحرير بعضها في ضوء تطوّر الأحداث، بالحذف والإضافة والتنقيح والتأكد من دقّة التوثيق، ثم ترتيب الأوراق ضمن مخطط متناسق لتكون فصولاً في كتاب واحد.
وتوقف عزيزة ليشير إلى أن "أسلمة الثورة" تبدّت على مستوى الخطاب والشعارات والرموز، إذ جرى إسباغ طابع ديني/ إسلامي قسراً على ثورة مدنية شعبية، واستغلال إيمان الناس ومشاعرهم الدينية سياسياً، وتفسير الصراع مع الأسد بمفردات الانقسام المذهبي/الطائفي، وتغييب أسباب الثورة الحقيقية، السياسية والاقتصادية، ولا ننسى تشكيل ودعم الكتائب الجهادية على حساب الجيش الحر، واستدرك أن تكون غالبية المتظاهرين مسلمين لا يكفي للقول إنها "ثورة إسلامية"، على النحو الذي أراده الإسلاميون وداعموهم (وحتى النظام)، واستدرك عزيزة أنه ميّز في أول فصول كتابه بين المسلمين والإسلاميين، وللدقّة بين دين المسلمين وأيديولوجيا الإسلاميين. ليكشف لاحقاً تطور الأحداث كيف أنّ الإسلاميين عملوا من أجل ثورتهم الخاصة، الإسلامية ذات اللون الواحد، على حساب ثورة الشعب السوري ذات الأفق الديمقراطي التعدّدي.
ولفت محدثنا إلى أنه تقصد استخدام عبارة "أوراق من ملفات الإسلاميين في الثورة السورية" عنواناً فنياً للكتاب ليشير إلى أن الكتابة عن الإسلاميين ودورهم خلال سنوات الثورة ثم الحرب تشمل جوانب مختلفة، وأمام الباحثين-كما يقول- ملفات تنتمي لمجالات عديدة يجدر العمل عليها، منها التاريخي والفكري والسياسي والميداني ..الخ، فالعنوان يعني أنّ الكتاب يتضمّن أوراقاً تبحث في أكثر من ملفّ من الملفات المتعلقة بالإسلاميين ودورهم في الثورة، وهناك بلا شك أوراق وملفات أخرى غيرها، ولكن لا يمكن لكتاب واحد أن يحيط بكامل مفاصلها بقدر ما هو خطوة تدفع نحو مزيد من البحث.
وأشار مؤلف "الثقب الأسود" إلى أنه استند في تأليفه إلى عشرات الأخبار والمقاطع المصورة المتاحة على الانترنت والتي وثّقت الأحداث، فضلاً عن بيانات ووثائق منشورة تعبّر عن أفكار مصدريها ومواقفهم رسمياً، وكذلك مؤلفات ومذكّرات بعض المنظرين والساسة الإسلاميين وغيرهم، إضافة إلى عدد من المقابلات، كلها كانت من ضمن المصادر والمراجع التي اعتمد عليها.
وفيما إذا كان الارتهان الخارجي أحد أسباب تحول الإسلاميين إلى أدوات طيعة بيد الممولين الخارجيين وتعميق وتوسيع الثقب الأسود، أكد عزيزة أن الارتهان للممولين والداعمين الخارجيين كان له نتائج كارثية على الثورة السورية، بخاصة من قبل الإسلاميين، لأنهم سيطروا على المشهد الميداني بقوة على حساب الضباط والعسكريين المنشقين و"الجيش الحر" بوجه عام.
وذكّر الباحث أن الاقتتال الفصائلي كان في حدوده الدنيا بدايات العسكرة حين كان "الجيش الحر" العنوان الأبرز لحمل السلاح في وجه آلة القتل الأسدية، لكنّ حالة التناحر تفاقمت باطّراد، مع تنامي حضور ودور المقاتلين الإسلاميين، وانتشار خطابهم الجهادي المتطرّف والإقصائي، واستدرك أن هذا التطوّر الخطير في المشهد السوري كان، في أحد وجوهه، تجسيداً لاختلاف إرادات الممولين وتباين أولوياتهم، فخلافاتهم ألقت بظلالها على الواقع الميداني، وكثير من الصراعات بين التنظيمات الإسلامية كانت امتداداً لخلافات أطراف إقليمية زعمت أنها تدعم الثورة، ووجدها أمراء الفصائل فرصة للاستحواذ على مزيد من الموارد والنفوذ وتحقيق الطموحات الشخصية، وكلّه باسم الدين والجهاد ونصرة الإسلام!
انكسار مشروع التغيير.
وعن تفسيره لوفرة الكتب الغربية التي أرخت للثورة السورية وبخاصة ظاهرة الإسلاميين بينما نرى ندرة بالنسبة للكتب العربية لفت عزيزة إلى أن الكتب العربية في هذا الشأن قليلة ولكنها ليست نادرة نظراً لصعوبات النشر وضعف سوق الكتاب العربي بوجه عام، مع الإشارة إلى تفاوت الأهمّية والموضوعية بين كتاب وآخر، وأردف أنه لا مجال للمقارنة بين الفرص المتاحة أمام الباحثين الغربيين في دعم وتمويل كتبهم ومشاريعهم البحثية، ومثيلاتها لمن يكتبون باللغة العربية.
وتابع: من ناحية ثانية قد يكون للانحيازات السياسية (والطائفية) أو شبكات العلاقات والمصالح دور في تجنّب البعض الخوض في دراسة هذه الظاهرة ونقدها. لكن المؤكّد بالنسبة لي أنّ من الضرورة بمكان متابعة البحث في الملفّات المرتبطة بالإسلاميين (سياسييهم وجهادييهم)، بما ينطوي عليه هذا الموضوع من تشابكات وتشعّبات إقليمية، وارتهان وفساد وحتى عمالة، فهذه خطوة لا بد منها إذا أردنا فهم جانب أساسيّ من أسباب انكسار مشروع التغيير وتعثّر الثورة، وينبغي فهم ما جرى وكيف يمكن تجنّبه حين يُتاح للسوريين استئناف ثورتهم.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية