أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أبناء العم .... محمد عبده العباسي

لولا لقيمات يقمن الأود ما تحرك قيد أنملة لطلب الرزق ، ولاتبع ابن عمه أو لبي له نداء وإن أغلظ له في القول :
ـ أفق يا عوض ودع النوم ، الفجر لاح ...
وبظهور خيوط الفجر ، جرجر عوض خطوه متكاسلاً نحو الزاوية يسبقه التابعي ..
الزاوية تغص بالمصلين قياماً وسجوداً، راوغ عوض طويلاً عند الميضأة ، قبلها تبول ، وتنحنح ثم أسند ذراعيه علي الحائط وبدا كمن يتقيأ ثم لحق بالصف الأخير كعادته ..
ما أن انتهت الصلاة حتي كان عوض أول من غادر الزاوية خارجاً يتنسم من هواء الصبح ، فيما كان التابعي يسلم علي قريب له كان غائباً عن الوطن في بلاد الله الواسعة :
ـ حمداً لله علي سلامتك ..
ثم انصرف يبحث عن صاحبه ، اتحدت الخطوات وهما يبحثان عن سيارة تقلهما إلي الميناء :
ـ مارأيك لو ذهبنا سيراً علي الأقدام ؟
لم يعره انتباهاً ، بل ضحك من تفاهته وأشار إلي قرب إنبلاج النهار :
ـ سنصل إذن عند الظهر ...
ضحك عوض فشقت ضحكته الفضاء الكبير في الميدان الذي تتوسطه دائرة زرعت بالزهور والرياحين :
ـ سأقطف عوداً من الريحان ..
نظر له شزراً ، وتوقفت سيارة ، قائدها لم يسألهما عن الوجهة التي يقصدانها ، بل انطلق سريعاً في الطريق المؤدية إلي الميناء :
ـ هل تعرف وجهتنا ؟
قال عوض ، نظر السائق في مرآة السيارة مبتسماً وقال له وهو يجلس في المقعد الخلفي وكان يتمطي ويفرد ذراعيه ثم أغلق فمه بظاهر كفه :
ـ لولا هذا الرجل الطيب لسألت ..
وأشار إلي التابعي الجالس بجواره ، ناوله التابعي سيجارة كما ناول عوض :
ـ مستورد كالعادة..
تفحصها ملياً وجعل يبحث عن ولاعته التي جاءته هدية من صاحب له أقلع مؤخراً عن التدخين :
ـ متي سيتوب الله علينا من الدخان ..
شد عوض حزامه حول خاصرته ، وتلفت من حوله فوجد " الصول مجاهد " لا يبتسم ، أرجع ذلك لنهاية الشهر ، وشوشه بأن الله سيفرجها ، وأطلق أحدث "نكتة " فضحك الرجل ، وجري من خلفه ، لكن عوض مشهور بالعدو كما الرهوان ..
في القارب حك عوض قفاه ، أمسك بالمجدافين فيما انتهز التابعي الفرصة وراح يدفع بالدفتر إلي الصول حنفي كي يختمه :
ـ نهارك أبيض ياحضرة الصول ..
وانطلق قافزاً في بطن القارب كطفل يلتجئ إلي حضن أمه :
ـ توكل علي الله يا عوض ..
عنقود عنب اشتراه عوض ليلة أمس من تغيان ، اقتسمه مع ابن عمه بالتمام والكمال ، ألقم فمه حبات كثيرة فرطها بسرعة غير معهودة وجعل يطحنها بأسنانه ، فيما انشغل التابعي بمراجعة الشباك مرة أخيرة ..
ورث عوض مالاً وفيراً عن أبيه ، لكنه والعهدة علي الراوي أتلفه في لعبة الزواج مرة بعد أخري حتي بلغ الزيجة الرابعة :
ـ ماهي آخر الأخبار مع زوجتك ؟
عرف عوض أنه لا يقدر علي الكذب فألقي بكلمته متململاً :
ـ كلهن بحاجة إلي مدفع رشاش ..
ـ أليست هي اختيارك ؟
ـ ولكنها ....
لم يكمل فقد حان وقت إلقاء الشباك في البحر، صارت كرات الفلين تطفو بالحبال إلي سطح الماء فيما كانت الشباك المصنوعة من الخيوط الصناعية تنجذب إلي القاع بقطع الرصاص الثقيلة ..
راح القارب يترنح بفعل الريح التي هبت منذ قليل ، والأمواج المصطفقة إلي جانبه ، وكان عوض يجهز " الجوزة والمعسل ":
ـ بدري ، ليس أوانه ..
عوض وجد الفرصة سانحة ، ثمة فسحة من الوقت تفصلهما عن جذب الشباك ، يتسع الوقت أيضاً للحديث عن النساء ، وعن أفلام السينما التي يحفظها عوض عن ظهر قلب ، ويدير حواراتها في براعة :
ـ كان ولابد أن تصبح ممثلاً سينمائياً ياعوض .
ـ انا أحسن من الكثير منهم ..
ـ وعادل إمام ..
ـ حبيبي ..
رفع يديه للسماء وهو يمج دخاناً كثيفاً من فمه علي شكل ما تخلفه طائرة نفاثة :
ـ نفسي أشتغل في السينما ، من فمك لباب السماء يا ابن العم ..
لملم التابعي شباك الصيد يساعده من الخلف عوض ، كانا يتبادلان حواراً صامتاً من خلال العيون ، والأمواج زاد صخبها ، فيما تعلقت "الكابوريا الخضراء " في الشباك كالعاشقة ، فيضحك عوض لحجمها الكبير، والتابعي يؤكد بأن الله وحده العالم بحاجته إلي المال ، فالمدارس علي الأبواب وبعد أيام يهل شهر رمضان المبارك ، وسيحل بعده العيد الصغير بالطبع :
ـ عاش عوض عاش ..
ابتسم التابعي ، فالصيد وفير ، ولابد أن يعاود الكرة :
ـ ربنا عالم بالحال يا تابعي ..
جعل التابعي يفك أسر " الكابوريا" وهو يمني نفسه بتحقيق أمنية ولده الصغير عمرو :
ـ هات لي من البحر كابوريا كبيرة ..
ـ طلبات أوامر ، ادع لنا ربك ..
يرفع الصغير كفيه أمام وجهه ويتمتم بكلمات دعاء :
ـ يارب ارزق بابا ..
كان عوض يوجه كلمات لصاحبه فلم يسمع :
ـ من أخذ عقلك فليهنأ به ..
وهزه فيما كادت الكلابة القاسية للكابوريا أن تقضم أحد أصابعه :
ـ انتبه يا تابعي وإلا فقدته ..
ومرة أخري راحا يلقيان بالشباك في البحر .
* * *
عند رصيف الميناء تجمع حشد كبير من التجار ، كل لوح للتابعي بذراع ، فلم يلتفت لأحد بينما كان عوض يعد واحداً منهم :
ـ قطعة من الحشيش هديتي إليك سراً ..
ابتسم عوض وراح يمني نفسه بينما انشغل التابعي بالنداء علي ابن الحلال الذي سيرسو عليه المزاد :
ـ لا تبخسوا الناس أشياءهم ..
وردد عوض كلمته :
ـ ابن حلال ..
وغمز بطرف عينه لصاحبه ، الكل في الميناء حسد التابعي علي رزقه في هذا اليوم ، وعلي ثقته بنفسه بينما راح البعض يخوض في سيرة عوض بكل سوء :
ـ لولا صلة القربي بينهما ، ماتحمله التابعي ساعة واحدة ..
ـ التابعي قلبه أبيض مثل البلور ..
ومرة أخري نادي التابعي :
ـ ياعوض ..
لكنه كان قد غاب عن بصره يبحث عن التاجر كي يفي بوعده ، لكنه أخفق في العثور عليه ولمحه يقترب من بوابة الخروج فعاد أدراجه ينعي حظه :
ـ أين كنت ؟
لم يرد عوض بالطبع ، وانتهزها فرصة كي يلحق بصلاة العصر في المسجد الكبير :
ـ مالفرق بينه وبين مسجد الميناء ، لا تتأخر..
وراح عوض يسابق الريح قبل أن يفر التاجر من أمام عينه ، فلما لحق به قال له :
ـ غداً ألقاك ، مع أطيب التمنيات ..
كظم عوض غيظه ونفرت عروق رقبته وأخذ يحدث نفسه :
ـ عد موج البحر يا جحا..
وأكمل :
ـ الجايات أكثر ..
ولبي نداء الصلاة ، ثم عاد فلم يجد التابعي :
ـ نلتقي في المقهي عقب العشاء كالعادة ..
وتحسس جيبه ثم حمل نصيبه من "الزفر" وقفل عائداً ، عند بوابة الميناء قابله تاجر صغير عرض عليه أن يشتري نصيبه فوافق علي الفور ، وعاد إلي بيته خالي الوفاض :
ـ أين رزق البيت من حصيلة الصيد ؟
ـ لم نصطد اليوم ..
ضربت زوجته صدرها وراحت تولول :
ـ وتلك الرائحة التي تخترق أنفي وصدري قادمة من بيت التابعي ..
لم يرد عليها واضطجع قليلاً وراح يدخن :
ـ وطعام هؤلاء الصغار ..
وعلا الصوت ، وخرج عوض غاضباً ، وفي غمرة الغضب كاد أن يلقي عليها باليمين المغلظة لولا أن لحق به التابعي وسد فمه بكفه وكاد أن يخنقه :
ـ اتق الله يارجل ، ماذا فعلت ..
ـ لا تكف عن تقريعي بلسانها السليط ..
ـ امض معي ، لقد انتظرتك طويلاًَ فلم تعد ، أين ذهبت ؟ وأين نصيبك ؟
لم يرد وراح يتبع اشعال سيجارة من أخري :
ـ بعته ..
ـ .........
ـ لا تحمل هماً ياابن العم ..
وألقم كفع بنصيبه من النقود ، وأمره :
ـ إدفعها إليها كي تأتي بطعام للصغار ، وتكف عن الصراخ ..
ـ هي لا تنتهي ..
ـ لا عليك ..
حملت حميدة نصف طعام بيتها إلي زوجة عوض الذي انسل عائداً لبيته :
ـ سالحق بالغداء ..
وجعل التابعي يراقبه وهو يؤكد عليه بألا يثير المزيد من المشاكل مرة أخري :
ـ سأمر عليك لنصلي الفجر ..
* * *



ـــــــــــــــــــ

بورسعيد ـ مصر

(127)    هل أعجبتك المقالة (140)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي