بتؤدة وتصميم، يكرّس ابراهيم الجبين اختلافه، موضوعاً وشكلا ولغة، ليحجز مكاناً على خارطة الروائيين، ربما لا يشبهه، أو ينافسه فيها وعليها أحداً.
رمى بباكورته "لغة محمد" فحرك مياهاً راكدة وشق طريقاً بالمسكوت عنه، وتابع بـ"يوميات يهودي من دمشق" نهجه الخاص المتكئ على البحث والمحرّم ربما، ليقذف بحجر "عين الشرق" قبل عامين، وفق تسمية الامبراطور الروماني يوليان لدمشق، فتصيب وتؤجج وتفتح باب الحوار والتفكير، بعد أن نهج شكلاً غير تقليدي، بالتقطيع، ومزج بميزان الذهب، بين السياسي والمجتمعي والتاريخي، ليوصّف ما يجري بالانطلاق مما كان.
واليوم، يتابع الإعلامي والأديب الجبين مغامرته واختلافه، عبر رواية "الخميادو" التي صدرت أمس عن دار "كتاب الفارابي-Farabikitap" بتركيا، بيد أن المغامرة هذه المرة، أكثر جرأة بالشكل والفكرة والمخيال، فاستحضاره لعرب الأندلس بمقاربة للذي يجري بسوريا، ربما لم يسبقه إليها روائي، وإن أبقى على الرمزية حيناً والتلميح بقية الأحايين، لئلا يقع بفخ الاطلاق، من المهزوم ومن المنتصر.
رواية "الجبين" تحدث في المستقبل وإن تتكئ على الماضي، مسرح أحداثها الرئيس دمشق "عين شرقه السابقة" لكن فضاء المسرح يتسع لكوبنهاغن ودبي وتونس وعمّان وباريس والقاهرة واسطنبول والمدن الألمانية، وكأن "الجبين" يقول: إن أردت أن تعرف ماذا يجري بسوريا، فعليك أن تقرأ الماضي وتحلل الواقع ولا تبعد الجغرافيا للحظة عن قراءتك.
وبتقريب تشويقي للقارئ، هاكم لقطة من بعض مجريات " الخميادو" (طبيب فلسطيني سليط اللسان، وراقصة مصرية منسية من أيام الوحدة المصرية السورية تعيش في حي عشوائي على أطراف دمشق، مغنٍ غجري مسحور بفكرة الانتحار، وفريق من الباحثين في تاريخ العمارة منهمك في البحث عن مكان في دمشق القديمة، مكان كانت تدور في الصراعات الوحشية في الماضي السحيق.
متطرفون وحوادث دامية، مسيحيون ومسلمون ويهود ولا دينيون، يكملون العمل الأدبي الذي يمكن أن يوصف بالتركيبي أسوة بالأعمال الفنية البصرية، لا سيما وأنه يعتمد الفنون منطلقاً للأفكار، من خلال مهنة الراوي، صناعة مجسّمات صغيرة لحارات دمشق العتيقة، وكذلك من قراءة سيرة المكان باستحضار الشغوفين به، مثل المهندس "عماد الأرمشي" والبروفيسور "دورينغ" و"آن ريسينيه" و"هشام الرفاعي"، تدور حوارات بينهم طيلة زمن الرواية المتداخل بين الماضي والمستقبل عما حلّ بالسوريين، أسئلة متلاحقة عن المقدّمات والنتائج ومتوقفة عند التفاصيل والأبطال وصنّاع اللحظة، فيظهر الشيخ "أحمد الصياصنة" شيخ الجامع العمري بدرعا في لحظة اقتحام الجامع، ثم بعد إعدام ابنه "أسامة" بدم بارد، ويأتي من الماضي الأبعد المتشدّد السعودي "جهيمان العتيبي" قائد المجموعة التي احتلّت المسجد الحرام في مكة، حيث الكعبة التي يسمّيها "الجبين" في الرواية "المكعّب العقل" ومشهد قطع الرأس الرهيب في ذاكرة طفل، قبل أن يظهر بين شخوص الرواية كل من "سلامة كيلة" و"سميح شقير" و"عبدالباسط الساروت"، والمهندس العبقري "باسل الصفدي" واليوميات التي جمعته بالراوي في مشروع الفكرة والعمارة والثورة والذي تم إعدامه في سجون الأسد).
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية