أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

تخطئ في تعدادهم (الشؤون الاجتماعية), ويتعامى عنهم مرشحو (البرلمان) و(الإدارة المحلية)

لم يكن انهماك غفران ذات الـ12 ربيعا بالعمل خلف حاسبها ذلك الصباح ليكون أمرا خارجا عن المألوف, فكثير من أقرانها في سوريا باتوا معتادين اليوم على تمضية الساعات الطوال وراء أجهزة الكومبيوتر في المنازل والمدارس وأماكن الترفيه, لولا أنّ تلك الطفلة النحيلة ذات الشعر الأسود المتموج والتي تركت لفضولها تصفح أحد البرامج التعليمية, لم تكن تملك في عينيها الواسعتين لحظتها إلا لمعانهما الباهت دون أي مقدرة على الإبصار, إذ أنها في واقع الأمر عاجزة عن رؤية أي شيء مما يجري أمامها على الشاشة.

 

على أنّ ذلك لا ينال من شغف غفران أو استمتاعها بتمرينها اليومي مع مدربتها الفخورة, وما بدا لوقت طويل أنه حائل يصعب تجاوزه أمام فاقدي البصر في التعاطي مع نشاطات هي حكر على المبصرين من قبيل التعامل مع الحاسب وتطبيقاته؛ بات اليوم أمرا اعتياديا أو يكاد.

 

ولعل الفضل في ذلك يرجع إلى برامج رائدة تعمل في الجوار دون جلبة تذكر, كما هو الحال مع المشروع الإقليمي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات للمكفوفين والمعروف اختصارا بـ(ICTARB), والذي ينشط مركز يحمل الاسم ذاته في السلمية في إطاره منذ العام 2005, وذلك بدعم لا يخفى من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).

 

يقول السيد نبيل عبيد المدير التنفيذي للمركز (لدينا هنا تجربة تمنح المزيد من الأمل لمن حرموا نعمة الإبصار, وتفتح أمامهم الكثير مما استغلق من آفاق. إنه لأمر يستحق الإشادة حقا).

 

ويطمح المشروع الذي يعد الأول من نوعه في سوريا -وربما في العالم العربي- إلى تنمية المهارات و القدرات العلمية المتصلة بالتقانات الحديثة و الحاسب لدى المكفوفين وضعاف البصر(كوسيلة تعليمية, وكطريقة لزيادة الإنتاجية الفردية والتفكير الاستقرائي) على ما جاء في مقدمة البرنامج.

 

ويضيف السيد عبيد المهندس الذي يعمل منذ العام 93على تطوير برمجيات مختصة بالمعوقين:(نسعى في المركز إلى تأهيل متدربينا من المكفوفين لاستخدام الحاسب وتطبيقاته المعروفة, من معالج النصوص, وبرامج الرسم والتصميم, وإعداد الشرائح والعروض التقديمية, وقراءة البريد الالكتروني وتصفح الانترنت, وتحويل النصوص إلى وسائط سمعية, مما يضعهم تقنيا على قدم المساواة مع مواطنيهم المبصرين).

 

وهو أمر لا تخفي عبير الأعرج امتنانها له على الإطلاق. فالآنسة التي توشك أن تدخل العقد الثالث من عمرها؛ تعد واحدة من أصل55000 مكفوف سوري وفق إحصاءات رسمية حكومية, غير أنها وبخلاف معظم من هم في حالتها؛ لم تولد كفيفة, بل فقدت بصرها بالتدريج نتيجة التهاب الشبكية الصباغي المزمن, والذي رافقها مذ كانت في السادسة من عمرها, قبل أن يستفحل ويذهب ببصرها تماما فيما كانت على أبواب امتحانات الشهادة الثانوية.

 

(لقد كان أمرا محبطا حقا) تقول عبير بأسى, وتضيف( تركت الدراسة في إثر ذلك مباشرة وبقيت في البيت مدة تسع سنوات, قبل أن استرد شجاعتي وأطلب العون من  جمعية لرعاية المكفوفين في دمشق كنت قد سمعت بها صدفة, حيث تمكنت عبرها من إتمام امتحان البكالوريا, ومن ثم التسجيل في الجامعة التي أدرس فيها اليوم الأدب العربي في سنتي الثانية).

 

عبير التي لم تتقن حتى اليوم طريقة (برايل) في القراءة, وتعتمد على التسجيلات الصوتية في دراستها؛ وجدت مؤخرا في تقنية برنامج (قارئ الشاشة) الذي يساعد فاقدي البصر على التعامل مع الحاسوب فرصة لا تعوض كي تلج بنفسها عالم التقنية الواسع هذا, و الذي لم يسبق لها أن كانت على صلة به حتى أيام كانت قادرة على الرؤية.

وتؤكد عبير:(سيخفف ذلك دون شك من أعباء دراستي, ناهيك عما سيفتح أمامي من آفاق لتطوير مهاراتي الذاتية, و من يدري قد يساعدني أيضا على إيجاد عمل في المستقبل).

 

ورغم أن مساعدة المكفوفين وإعادة تأهيلهم اجتماعيا يقع على رأس اهتمامات البرنامج الإقليمي لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المنطقة العربية (ICTDAR)-والذي يعد برنامج (ICTARB) جزء منه- وخاصة لجهة إيجاد فرص عمل لهم؛ إلا أنّ ذلك لا يزال هدفا بعيد المنال نسبيا في ظل تهرب بعض الجهات الحكومية من تعهداتها الشفهية السخية, واستنكاف القطاع الخاص الاقتصادي عن المشاركة مما يفترض أنه نصيبه من المشاركة المجتمعية.

 

يقول طلال القطلبي مساعد مدير مركز السلمية واصفا تعامل بعض هاتيك الشركات :(إنهم يكتفون بوضع علاماتهم التجارية على لوحات الرعاية عندما يكون هناك حدث ما, لكنهم سرعان ما يختفون بلا أثر عندما نقصدهم بخصوص شواغر العمل,  أما فيما يخص الجهات الرسمية فلم يحصل أي توظيف حقيقي حتى الآن, وذلك بالرغم من التزام الحكومة –علنا أقلّه- بتأمين نسبة 4% من حاجتها من الموظفين الحكوميين من ضمن ذوي الاحتياجات الخاصة), وهو أمر يرى القيمون على المركز أنه يحول دون (دمج هذه الشرائح في مجتمعنا لتصبح فعالة بشكل جيد), البند الأساس الذي قام عليه مشروع شبكة المعرفة الريفية ومركز (نفاذ) السلمية.

 

وينشط السيد القطلبي في مجال دعم المعوقين منذ عشر سنوات تقريبا, وهو أحد اثني عشر مدربا يعتمد عليهم المركز فيما يقدمه من خدمات, ومع أنّ جل نشاط المركز يعتمد أساسا على جهود المتطوعين؛ فإن ذلك لم يمنعه من تحقيق نتائج سريعة وملموسة على الأرض.

 

إذ تمكن مركز السلمية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات للمكفوفين من تأهيل 38 مكفوفا حتى الآن, ما جعله قبلة لكثيرين ممن هم في حاجة لخدماته, وفق ما يؤكده لنا السيد عبيد مدير المركز, ناهيك عن الدعوة التي تلقاها المركز للمشاركة في (قمة مجتمع المعرفة) التي عقدت في تونس أواخر العام 2005, مع أن عمر البرنامج في حينه لم يكن قد جاوز بضعة أشهر.

 

ويبدو باسم يازجي اليوم مثالا حيا على هذه الطفرة الملفتة في الأداء.

إذ ما كاد السيد يازجي ينهي دورة تأهيله كواحد من المكفوفين المستفيدين من برامج المركز؛ حتى انخرط هو نفسه في سلك المتطوعين, ليصبح مدربا يساعد أقرانه على خلق صلة جديدة بالعالم الخارجي لطالما افتقدوا إليها, وذلك بعد أن وجد لنفسه من تشاركه حياته من ضمن فريق المدربين أيضا.

 

يقول باسم الذي يبلغ اليوم الـ28 من عمره وقد أصبح منذ مدة قصيرة أبا لطفلة فاتنة (أحاول أن أساعد من حولي ما استطعت, وأنا أدرب زملائي من فاقدي البصر على تقنيات الحاسب والانترنت عبر لوحة مفاتيح معدة على طريقة برايل وبرنامج ناطق للنصوص, بل إن بعضا من المتدربين الذين أعمل معهم في بعض الأحيان هم عمليا من المبصرين)!

ويضيف:(أحاول اليوم تطوير طرق خاصة في التدريب قد أتمكن من خلالها من الاستغناء عن برنامج قارئ الشاشة نفسه على أهميته).

 

ويؤكد السيد القطلبي على كلام زميله المستجد باسم مشددا (لم يكن أي مما نراه اليوم ليكون ممكنا لولا الدعم الذي تلقيناه من الـUNDP).

 

السيد نور الدين شيخ عبيد مدير البرنامج الاستراتيجي لاستخدام تقانة الاتصالات والمعلومات في التنمية الاجتماعية و الاقتصادية في سوريا, يحلو له أن يلخص لنا ما يقوم به برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في البلاد بجملة واحدة هي (تحريض الأفكار).

يقول السيد شيخ عبيد(نضع نصب أعيننا تعليم المتدربين على الاستفادة العملية من كل هذه التقنيات لا مجرد إتقانها), ويعتبر أن برنامج الأمم المتحدة للعمل مع المعوقين في السلمية قد(حقق الغاية التي أنشئ من أجلها بشكل ممتاز).

 

ولكن لايبدو أن السيد نبيل عبيد على ذلك القدر من التفاؤل, إذ يملك مدير المركز المتحمس ما يعتقد أنها مخاوف (واقعية) دفعته إلى التحذير من أن هذا المركز قد يتعرض لنكسة كبيرة (تؤدي إلى إغلاقه) ما لم يتم تدارك الأمر من قبل المعنيين.

ويرى السيد عبيد أن اعتماد المركز بشكل كبير على المتطوعين لايخدم (عامل الاستدامة) في مهمته, إذ يتطلب الأمر موظفين دائمين (من ذوي المهارات والخبرات الخاصة في هذا المجال), ناهيك عن أن بناء المقر نفسه مستعار عمليا من المركز الثقافي في المدينة, والأمر يتطلب كل سنة تدخلات لدى وزير الثقافة شخصيا لمجرد إبقاء الوضع على ما هو عليه.

ومع أنّ عدة حواسب شخصية في المركز مجهزة ببرامج مخصصة لشريحة المكفوفين بالذات إضافة إلى مكتبة سمعية وطابعة برايل وملحقات أخرى ضرورية؛ إلا أن ذلك كله لم يعد كافيا من وجهة نظر عبيد, خاصة والحديث يجري عن كثير من المكفوفين وضعاف البصر باتوا يقصدونه لا من باقي المحافظات السورية المجاورة كحمص وحماة وطرطوس وحتى دمشق فحسب؛ بل كذلك من بعض دول الخليج العربي البعيدة ممن وصلهم صيت انجازاته.

 

ويرجع السيد عبيد ضعف التمويل الذي يتلقاه مركزه إلى عوامل عدة يأتي على رأسها (قصور الاحصاءات الرسمية) المتوفرة, والتي تـُقرر وتوضع على أساسها الميزانيات وخطط الانفاق.

ويضرب عبيد مثلا لذلك بتعداد قامت به وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في إحدى المناطق, حيث لم يسجل فريق إحصاء الوزارة أي حالة فقدان بصر لدى العينة التي  كلف متابعتها, ليثبت في وقت لاحق؛ اكتشاف ثمانية حالات كف بصر في ذات العينة, وموجودة جميعها ضمن أسرة واحدة!

 

وعن مساهمات المحيط المجتمعي نفسه في دفع عجلة العمل في المركز إلى الأمام, يبدي السيد عبيد امتنانه للتبرعات التي تأتيه من قبل أفراد وجهات مختلفة, وإن كان من العسير التعويل عليها على المدى الطويل.

أما أبرز الغائبين عن المساهمة في هذه المساعدات والمتابعات كما يلحظ المتابع فلم يكن سوى مرشحو مجلس الشعب والمجالس البلدية المحلية في ظل الموسم الانتخابي الطويل هذه السنة.

حيث لم يجد أي من أولئك السادة المنذورين لخدمة دوائرهم الانتخابية ومن فيها داعيا لأن تشمل عباءة وعودهم واهتماماتهم التنموية الفضفاضة هذا المركز, والذي أكد لنا كل من مديره ومساعده أنهما لم يتشرفا ولو بـ(زيارة واحدة) -وإن من باب رفع العتب- من أي من السادة المرشحين –الأعضاء اليوم ربما- وخاصة المحليين منهم,الأمر الذي يفضح مدى التمييز الذي تتعرض له هذه الشريحة ذات الحاجات الخاصة من المواطنين على أيدي من يفترض أنهم يمثلون همومها ومصالحها.

 

 وعن الطلبات التي ما تنفك تتلقاها مكاتب برنامج الأمم المتحدة الانمائي إن لجهة توسيع المركز القائم في السلمية ورفده بالمزيد من الدعم؛ أو لافتتاح مراكز إضافية في مناطق أخرى من البلاد يجيب السيد شيخ عبيد المنسق للمشروع بين الـ(UNDP) ووزارة الاتصالات والتقانة السورية أحد الرعاة الأساسيين قائلا:(نحن لا نسعى في عملنا لأن نكون بديلا عن أحد, ويقع على عاتق الناس أنفسهم شأن المساهمة في تطوير ما يلبي ويسد احتياجاتهم المختلفة إن على هذا الصعيد بالذات أو على غيره من الصعد).

 

ويكشف السيد شيخ عبيد في هذا الإطار عن مراكز افتتحت مؤخرا في السلمية وغيرها مقتدية خطى تجربة الـ(UNDP) المتميزة هذه, كالحال مع شبكة الآغاخان للتنمية التي تعمل اليوم في المجال ذاته.

 

وبين الأمل الذي تشرع بابه أمثال هذه المشاريع أمام المكفوفين في البلاد؛ والتقصير المخزي من قبل بعض محترفي فبركة الوعود والتوصيات في الحكومة والقطاع الخاص؛ تبدوا خطا السيد باسم يازجي في طريق عودته إلى منزله ذلك المساء أكثر ثباتا على الأرض, وهو المكفوف المتدرب سابقا, المدرب حاليا, الذي لاينفك يؤكد على أنه يستعيد شيئا فشيئا كل يوم زمام المبادرة في حياته, وذلك بعد أن تمكـّن من تذوق طعم مشاركة أصدقائه وجيرانه من المبصرين العمل والانتاج.

(وإن كنا فقدنا البصر -يقول اليازجي- فعسانا لانعدم البصائر).

خالد الاختيار
(85)    هل أعجبتك المقالة (79)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي