خريف عام 2019، صدم كثير من السوريين والمتابعين لقضيتهم بمقطع لا يحتمل، كانوا من قبله يعتقدون أن الأسد وشبيحته هم الأكثر "تخصصا" في ارتكاب الفظاعات، لكن المقطع أخبرهم المقطع أن الروس يمكن أن ينافسوا بل ويتفوقوا في هذا المضمار شديد الشناعة.
تم تسريب المقطع الذي يعود تسجيله للعام 2017، فصعق من استطاع مشاهدته من مقدار وحجم التعذيب الذي وقع على الضحية، وبشاعة التمثيل بجثته، بعد أن تعرض للضرب المميت بالمطارق، المترافق مع الشتم والتحقير، لينتهي الأمر باحتزاز رأسه وقطع يديه ثم إحراقه!
كل ذلك تم على أنغام أغنية تحمل من المغزى ما تحمل، تقول كلماتها: "تحترق قرية وتركض امرأة شيشانية، لا تقبل أن تعطيني الطفل، لكنني آخذه وأقتل اﻷم، أنا قوات خاصة روسية لا أكترث لشيء، أحمل السلاح ﻷقتل.. تعذيب حتى الموت".
يومها أثبتت الوقائع المأخوذة من المقطع المسرب أن المجرمين ينتمون لمرتزقة "فاغنر" الروسية، وأن الجريمة وقعت في حقل "الشاعر" بريف حمص، أما الضحية فتم التعرف إلى هويته باعتباره "محمد طه اسماعيل العبدالله" الذي ولد في قرية الخريطة بديرالزور عام 1986، وتم القبض عليه لدى عودته إلى سوريا قادما من لبنان، حيث كان يعمل ليعيل أسرته.
كان النطق بالشهادة من آخر ما نطق به "محمد" قبل أن يسلم روحه، تاركا في نفوس أهله ونفوس كل المعذبين من السوريين غصة كنصل سيف حاد، وخيبة أمل جديدة مما يسمى "العدالة الدولية"، التي تذرعت بعجزها عن محاسبة التابع الأسد، فكيف سيكون حالها إذا ما تعلق الأمر بـ"السيد" الروسي!
شبكة "سي إن إن" فتحت ملف "محمد" من جديد، لتطلعنا على آخر التفاصيل المتعلقة بقضيته، وإلى أي مكان وصلت ملاحقة المجرمين المتورطين بهذا الجريمة، تورطا لا يقبل أي جدال.
تقرير الشبكة الأمريكية الذي تولت "زمان الوصل" ترجمة أهم نقاطه، أفاد أن 3 منظمات غير حكومية من سوريا وفرنسا وروسيا رفعت ما يمكن تسميته "دعوى قضائية تاريخية" ضد مجموعة "فاغنر" الروسية، بسبب دورها في ارتكاب الفظائع ضد السوريين، والتي وثقت واحدة منها في الشريط الخاص بـ"محمد".
الدعوى تم رفعها منذ بضعة أشهر، نيابة عن "عبد الله" شقيق الضحية المعذب، ليشكل الأمر سابقة في ملاحقة مجموعة إجرامية، استخدمها فلاديمير بوتين في عدة بلدان مثل: أوكرانيا، ليبيا، جمهورية إفريقيا الوسطى، السودان، موزمبيق ، لتنفيذ أقذر مهامه، لكن حضورها في سوريا كان الأكبر والأشهر.
عبد الله، اللاجئ الذي فر من سوريا عام 2017 ، لم يتحدث للإعلام من قبل عن الجريمة التي وقعت على شقيقه، ولكنه قرر كسر الصمت، عله يلفت انتباه المجتمع الدولي إلى المأساة التي دمرت عائلته.
تحدث "عبدالله" شرط إخفاء صورته ومكان إقامته الحالي، حماية لأفراد أسرته الذين ما يزال بعضهم في مناطق سيطرة النظام والروس.
قال عبد الله للشبكة الأمريكية: "لقد رحل أخي ولن يعود أبدا، لكني أريد أن يسمع العالم عن قضية أخي، كي تتم محاسبة هؤلاء المجرمين"، موضحا أن "محمد" اتصل بهم في شهر نيسان من عام 2017، ليخبرهم أن النظام احتجزه أثناء عودته إلى سوريا (كان يومها عائدا من لبنان بعد عمله هناك 8 أشهر).
قال "محمد" لذويه في تلك المكالمة إنهم نقلوه إلى دمشق وأجبروه على الانضمام إلى الجيش، لكنه سيحاول الفرار.
بعد ذلك بنحو 10 أيام، اتصل "محمد" مجددا قائلا إنهم سيرسلونه إلى حمص، ومؤكدا نيته استغلال الفرصة والانشقاق عن جيش النظام.
في هذه المكالمة التي كانت الأخيرة له، كان "محمد" يتحدث وكأنه موقن أن عائلته لن تسمع صوته مجددا، موصيا شقيقه بأن يولي اهتمامه لوالديهما وأن يطلب منهما مسامحته، لأنه قادم على خوض غمار المجهول، ولايمكن أن يعرف إلى أين تودي به محاولة الانشقاق عن جيش يريد له أن ينغمس في جرائم يأباها الأسوياء.
وكذلك أوصى "محمد" شقيقه بأولاده خيرا، ومنهم ابنته الصغرى التي لم يرها مطلقا.
لم تكن العائلة لتعرف فيما بعد سوى أن "محمد" اختفى وانقطعت أخباره، ولم يتصوروا طريقة اختفائه ولا ما ذاق من عذابات حتى صعقهم ذلك الشريط المسرب بعد عامين تقريبا من الاختفاء.
يتذكر "عبدالله": ذات يوم أرسل لي رجل من بلدتنا مقطعا مصورا، قال لي: شاهد، يمكن أن يكون أخوك!... بالطبع تعرفت على أخي من ملابسه ومن صوته ومن مظهره.
أخبر "عبد الله" أفراد أسرته الآخرين بما شاهده في المقطع، لكن حاذر أن يري أي شيء لوالديه المسنين خوفا عليهما.
يتابع "عبدالله": عندما شاهدت المقطع الأول، كان لدي بصيص أمل أن محمد ما يزال على قيد الحياة، فقد كان يتعرض للتعذيب، لكنه كان ما يزال يتحرك. كنا نأمل أنه لا يزال حيا وقد تم نقله لأحد المشافي".
سافر والد "محمد" إلى دمشق بحثا عن ابنه في المستشفيات والسجون.. ولكن بعد نحو شهرين، ظهر جزء آخر من المقطع، أثبت لذويه أن ابنهم قضى نحبه بطريقة شنيعة.
يتذكر "عبدالله" بصدمة وذهول: "عندما شاهدت الجزء الثاني [الذي أظهر قطع رأس محمد]، مكثت في غرفتي 3 أيام ولم أغادرها.. لم يكن أخي الأكبر فقط، كان صديقي، كنا دائما معا".
تزامنا مع الذكرى العاشرة لاندلاع الثورة السورية، اختارت 3 منظمات أن تحرك قضية "محمد" في جانبها القانوني، فرفعت قضية لملاحقة المجرمين الروس أمام القضاء الروسي نفسه، ذلك أن لاسبيل مطلقا لرفع دعوى أمام "الجنايات الدولية"، أما في روسيا، فبحسب محام في إحدى تلك المنظمات تكمن "فرصة فريدة بسبب الأساس القانوني القوي للمطالبة بالاختصاص القضائي في روسيا ... هذه هي المحكمة الطبيعية لهذه القضية".
ويرى هذا المحامي أن رفع الدعوة في روسيا يبقى الخيار الأقرب، وأن الولاية القضائية العالمية لايمكن الركون إليها إلا لتكون بمثابة "الملاذ الأخير"، حيث سبق لسوريين أن رفعوا قضايا في كل من ألمانيا وفرنسا، مستفيدين مما يسمى "الولاية القضائية العالمية" في هذين البلدين.
اللافت إن جهة روسية سبقت المنظمات الثلاث في دعوتها السلطات الروسية لفتح بشأن جرائم "فاغنر"، وما تضمنه شريط "محمد" من معطيات دامغة، لكن الطلب رفض وطوي نهائيا (كان ذلك عام 2019 بالتزامن مع تسرب المقطع الرهيب وانتشاره).
"عبد الله" من جهته، لم يسمع عن "فاغنر" مطلقا، ولا يعلم عن تاريخها الأسود شيئا، وما يهمه فقط أن يرى جلادي شقيقه يحاسبون، معربا عن قناعته بأن هؤلاء المرتزقة لم يكونوا ليقدموا على جريمتهم لولا حصولهم على ضوء أخضر.
ويتابع: "لن نكون مثلهم ونطالب بأن يوقعوا عليهم ما أوقعوه على أخي، لكن أقل ما يستحقونه هو السجن".
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية