وصف رأس النظام الثورة المستمرة ضده منذ أكثر من 10 سنوات أنها "ثورة ثيران"، بعد يوم من فوزه في الانتخابات الهزلية بنسبة 95.1% من الأصوات.
وقال بشار الأسد في كلمة متلفزة أن الفرق بين الوطنية والخيانة كالفرقِ بين ما سمي ثورةَ ثوار، وما شهدناه من ثورانِ ثيران، هو الفرق ما بين ثائرٍ يتشرب الشرف، وثور يعلف بالعلف، بين ثائر نهجُه عزٌ وفَخار، وثورٍ يهوى الذل والعار"، على حد تعبيره.
الأمر الذي أثار تندر وسخرية الكثير من الناشطين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وتهكمهم بالتعليقات والمنشورات حيناً وبالرسوم والصور الإيضاحية أحياناً أخرى ورد الصاع صاعين على من يعتقد أنه انتصر على ثورة السوريين بمسرحية هزيلة، وبغض النظر عن هذا الوصف الذي يجانب الحقيقة حظيت "الثيران" بمكانة خاصة في الحضارات السورية المتعاقبة عبر آلاف السنين، فمنذ أن بدأ الإنسان السوري يستقر ويبني لنفسه المساكن والمعابد والمدارس استأنس الحيوانات وقام بتدجين بعضه، ونشأت حول ذلك كله المدنية التي أسهمت في تطور الإنسان عبر التاريخ وبناء حضارته، و"الحيوان في نزاعه من أجل البقاء، كان أول منشىء للمدنية، فالكلب الذي اختزن تحت الثرى عظمة فاضت عن شهيته، والسنجاب الذي ادخر البندق لوجبة أخرى في يوم مقبل، والنحل الذي ملأ خليته بالعسل، والنمل الذي خزَّن زاده أكداساً إتقاء يوم مطير هي وأضرابها من المخلوقات الراقية أول من علَّم أجدادنا فن ادخار ما نستغني عنه اليوم إلى الغد، أو اتخاذ الأهبة للشتاء في أيام الصيف الخصيبة بخيراتها، بل لا بد لنا من أن نعترف بما قدمته لنا من خلال طبائعها دروساً بنينا عليها جزءاً هاماً من سلوكنا"، كما قال المؤرخ "وول ديورانت" في كتابه الشهير "قصة الحضارة".
ولعل هذه المكانة الخاصة للحيوان جعلت منه مادةً أثيرة لدى الفنان القديم الذي تفنَّن في تجسيد هذا الكائن بالأزميل واللون والطين والختم الاسطواني وغيرها من وسائل التعبير المتاحة آنذاك.
ولا يكاد يخلو عمل فني قديم مما وصلنا من اللُقى والمكتشفات الأثرية التي تحفل بها المتاحف السورية من تجسيد لحياة الحيوان اليومية، وقد بلغت هذه الأعمال وخاصة النحتية منها درجة كبيرة من الواقعية ومحاكاة الطبيعة، من خلال تصوير الحيوانات في مختلف أشكالها وحالاتها اليومية وصراعها من أجل البقاء، سواء منها الحيوانات المنفردة أو الوحوش التي تتعارك وتصطرع، أو الكائنات الخيالية كالإنسان الأسد والإنسان الطير والإنسان السمكة والعنقاء والأسود المجنحة وغيرها.

وإذا كان نحت الحيوانات في الفن السوري القديم لغاية دينية بالدرجة الأولى فان هذه الغاية لم تكن تتعارض مع مبدأ الإحساس الجمالي الذي برز في هذه المنحوتات حتى وإن كانت الغاية الدينية تقتضي بعض الأحيان عدم التركيز على الناحية الجمالية، ورسم أو نحت الحيوان في أوضاع غير واقعية، كتمثيل الحيوانات واقفة وقفات إنسانية مثلاً، غير أن هناك منحوتات أو أجزاء من منحوتات لا يمكن إلا أن نقف أمامها مشدوهين لسيطرة الرؤية الجمالية عليها، ومراعاة مبادئ التعبير الفني كالتبسيط في الصنع، ومراعاة شخصية الموضوع، وإبراز الخطوط والكتل والأحجام" بحسب دراسة للباحث "أمين حامد" بعنوان (الحيوان في فن الرافدين القديم).
وبات الرسم النافر على الحجر صفة مميزة للفن السوري القديم، فقد زوَّق الفنان الآشوري، ولأول مرة الأواني الحجرية بزخارف نافرة مستمدة من عالم الحيوان، حيث صوَّر حيوانات أليفة كالثور والنعجة، كما صوَّر الحظيرة وحولها قطيع الأغنام أو الماعز، مما يدل على أهمية تربية الحيوان في تلك المجتمعات، ووجدت الحيوانات الكاسرة كالأسد والطيور الجارحة كالعقاب مكاناً لها بين تلك الزخارف، واستقى الفن الآشوري عناصره مما بين النهرين (ماري) فتبنى فن الرسوم الجدراية، وعالج نفس المواضيع مع توسع ظاهر في مشاهد الصيد والقنص للأسود والحيوانات المفترسة الأخرى، كما اهتم بتصوير ملاحم الحرب التي تظهر عظمة وقوة المحارب الآشوري وقسوته على أعدائه والحيوانات التي يسعى لاقتناصها.
من أبرز الحيوانات التي نجد لها الأثر الأكبر في فنون الحضارات السورية القديمة هو الثور، ولعل أقدم المنحوتات التي تم الكشف عنها في هذه الحضارات كانت تحوي تجسيماً للثور، ويكاد يجمع الباحثون على أن وجود رسوم الثيران ليس إلا تعبيراً عن وظيفة من وظائف الطبيعة وهي الخصب لأن الثور بقدرته الجسدية والجنسية هو أقرب الحيوانات إلى تجسيد الخصب، فكان في استعارة الثور كرمز ديني إشارة إلى هذه الوظيفة الطبيعية الهامة، وقد عثر في (عين دارا) -أقصى الشمال السوري- على عدد من الأختام الاسطوانية التي تجسد صوراً لثيران، ومنها ختم من الحجر الأسود اللامع يمثل ثوراً مجنحاً بين جناحيه النصباوين هلال وهو من صنف الأختام الآشورية النادرة التي نقش في وسطها شكل حيوان منفرد . وهناك نصب حجري عثر عليه في (تل برسيب) - تل أحمر- في الجزيرة السورية يمثل إله الطقس واقفاً فوق الثور المقدس ممسكاً بيده الفأس المزدوجة وحزمة الرق ويعود تاريخ هذا النصب الموجود حالياً في متحف حلب إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد.
وفي متحف حلب الوطني العديد من القطع الفنية المصنوعة من الآجر التي تمثل موضوعات حربية ودينية معاً يشاهد في إحداها طريقة ممارسة بعض الطقوس العبادية إثر نهاية معركة ظفر بها الشعب العموري في "ماري" على أعدائه: الأشخاص بلباسهم الحربي يمشون في موكب النصر، أمامهم شخص يحمل ثوراً فوق سارية يرمز للقوة والانتصار، وعثر في "ماري" أيضاً على عدد كبير من القطع الصدفية والعاجية، ولكن مع الأسف وجدت مبعثرة دون رابطة تجمعها فيما بينها، وتمثل الكثير من هذا القطع صوراً لبعض أنواع الحيوانات كالأسد والنمر والثور والخروف والماعز والغزال والثعلب والكلب، وبعض الطيور والدواجن والثعابين، ولو نظرنا إلى هذه الأعمال من الناحية الفنية لأدهشتنا تلك الخطوط الناعمة الدقيقة المرنة التي رُسمت وحُفرت على الصدف أو العاج لتُظهر معالمَ الشكل، وقد نُفِّذت بإتقان فلم يهمل الفنان أثناء عمله إبراز التفاصيل الدقيقة في أوضاع الحيوانات، ولم يهمل الأبعاد والنسب الخاصة بكل واحدة منها.
ومن توابيت الرستن الأثرية التي تمثل مشاهد للحيوان تابوت (ملياغر الرخامي) الذي يزن حوالي أربعة أطنان، وعلى الوجه الأساسي من التابوت صورة الربة (ديانا)، وإلى يمينها كلب، ووراءها ستة أشخاص ينقضُّون على الوحش الكاسر وقد بدا شخص واقفاً على الأرض، وهذا المشهد يمثل أسطورة إغريقية، وعلى الوجه الجانبي فارس وخلفه شخص يجرُّ كلباً، وعلى الوجه الجانبي الآخر حيوان خرافي مجنح ينقض على ثور.

ويحتفظ متحف دير الزور الذي تم افتتاحه منذ سنوات بمجموعة هامة من هذه الأختام ومنها ختم من الطين عليه طبقة ختم من الأمام والخلف وعلى الحواف أيضا، ولكن صورة الختم مشوهة قليلا ويمثل هذا الختم مشهد ثور مجنح يحاول أن ينهض ونشاهد في الطبعة ثورا مجنحا يثني قائمتيه الأماميتين، أما القائمتان الخلفيتان فواحدة مشدودة والأخرى يلبط بها، وحافر هذه القائمة مفقود وهي تمتد موازية لذيله الذي ينتهي إلى خصلة شعر كبيرة.
وظهرت في موقع الجرف الأحمر العديد من الألواح الصغيرة نقش عليها أشكال هندسية وحيوانية وحيوانات من رباعيات الأرجل ومن هذه النقوش رسم لطائر البوم يمسك بأرجله حشرة وتوجد على الوجه الخلفي للوحة رؤوس ثيران فسرت على أنها قد تكون تدويناً لعدد الثيران.
فارس الرفاعي - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية