ربما محاولة استثمار ما بعد المعارك، أي معارك، لا يقل أهمية عن التحضير لها وقيادتها وإدارتها حتى النهاية، إذ كم من المعارك الناجحة انقلبت خاسرة لسوء التسويق أو خلل التوقيت، وكم من الحقوق تبددت جراء خطأ أدوات التعبير والخطاب أو النقل بما لا يتناسب وذهنية الآخرين.
واليوم، بعد أن قلبت المواجهات الأخيرة بفلسطين، كثيراً من الحقائق والمفاهيم السائدة، أو التي أرادت "الواقعية الجديدة" تسييدها، لتغذو، كما سواها من التغييرات المنطلقة من الاستسلامية والمنصّبة بالنهاية، في صالح المستبدين، كالهرولة للتطبيع والتخلي عن الحقوق، أو إبقاء الشعب خارج حدود المواطنة والآدمية، بذرائع المقاومة والتوازن الاستراتيجي.
كما بدلت صواريخ المقاومة، رغم ما قيل عن قلبها شكل الصراع، من أشكال الخلاف الذي وصل حد الصراع والانقسام، فلسطينياً وعربياً وحتى دولياً.
إذ بالوقت الذي رآها كثيرون، الخطوة الأهم منذ 1948 على صعيد المواجهة مع العدو الإسرائيلي، إثر وصول النيران لعمق مناطق الاحتلال بعد البدء بالمفاجأة أو المبادرة، وأنها حققت ولو القليل بفضل السلاح، بعد عجز المفاوضات والاستسلام لعقود، فأخّرت إن لم نقل ألغت سرقة المنازل بحي الجراح وألغت مظاهرة الأعلام الاسرائيلية وأعادت "القضية" للواجهة بعد أن عرّت وحشية "واحة الديمقراطية والسلام".
رآها آخرون هدامة لإنجاز المتظاهرين السلميين بالأقصى وحي الشيخ جراح، بل وأعطت المبرر لإسرائيل، لقصف وتهديم المنازل والمؤسسات وقتل 232 فلسطينياً، وإصابة أكثر من 1900 بجروح مختلفة.
وما زاد من سخط أنصار هذا الرأي، تطرّق رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية لإيران، معتبراً لتسليحها وتمويلها الفضل، إلى جانب مصر وقطر ودورهما بالتهدئة ووقف إطلاق النار.
إذاً، هكذا نحن، كنا ومازلنا مستمرين وسنبقى قادرين على الانتصار، لكننا بارعون في اغتياله لنصل إلى الانقسام والتخنّدق، خاصة بوهم حرية الرأي التي فهمناها مقلوبة بعد ثورات الربيع العربي.
بعيداً عن هبة التشرذم المتصاعدة الآن، حول هل ما حدث انتصاراً أم تدميراً، والخلاف حول انتماء حماس وما يريد بعض قادتها تأصيله، لنسف ما تحقق على حساب الدم والتهجير، وهو بواقع الأمر، أكثر من يحصى.
ربما السؤال اليوم، كيف يمكن استثمار "الانتصار" بعد أن بدّل -كما أسلفنا- الكثير مما اشتغلت عليه دول، بما فيها عربية، لتزييف التاريخ وتشويه الجغرافيا ووضع المواطن العربي بموقع المستسلم الذليل.
لن نأتي على أشكال الاستثمار سياسياً، بالداخل والفصائل، أو عربياً ودولياً، ولا حتى ما يتعلق باستغلال عودة القضية الفلسطينية دولياً للواجهة والاشتغال على حل، الدولتين أو غيره، بل بواقع خروج مظاهرات شعبية بدول عدة حول العالم، سنركز على الاستفادة من انتصار الشعوب لقضايانا المحقة، ولكن بطريقة أقرب لذهنيتهم وفهمهم، وليس على طريقة العويل والصراخ والمبالغة التي لا نجيد سواها.
هنا، تقفز إلى الذاكرة، حكاية عشتها بلندن بعد المجزرة قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 2004 في رفح، والتي راح ضحيتها 56 شهيداً و150 جريحاً فضلاً عن تهديم مئة منزل وبنى تحتية بما فيها، مواقع خدمات وإسعاف.
لكن إعلامنا لم يركّز وقتذاك، على قصف مسيرة الأطفال حين ذاك وقتل 12 طفلاً أو تصوير وحشية ما أسمتها إسرائيل "قوس قزح" عبر قصف تجمعات سكنية.
بل وقع جلّ الإعلام العربي بفخ المبالغة بطرح أعداد القتلى، فبعض الوسائل ضربت العدد بإثنين وبعضها بعشرة، ولم يتعدَّ نقل المآسي والقتل، الصراخ والوعيد بالدم والرمي بالبحر.
ليلتقط الإعلام الغربي المتصهيّن ومن في فلكه، ومنه "بي بي سي" التي كنت فيها، هذه السقطة، ويركّز على تكذيب مشاهد القتل وعدد القتلى، وتتحول القضية يومذاك، من قضية احتلال يقتل أهل الأرض ويهدّم ممتلكاتهم، إلى إعلام عربي كذاب وغير موثوق وهدفه تشويه الحقائق والإساءة إلى إسرائيل.
واليوم، وبناء على ما رشح ويمكن أن يرشح، ليس من الغرابة، الوقوع ثانية بأفخاخ المبالغة أو الابتعاد عن تسويق القضية كما هي، قضية شعب ينشد الحرية والعيش على أرضه بسلام.
السؤال هنا وبالانطلاق مما قلناه عن وعي وذهنية الآخر، والذي ينفر من مشاهد الدم ولا تستميله المناشدات والخطب الحماسية، ما هو الشكل الأنسب، إن لم نقل الأنسب، لتسويق القضية الفلسطينية إنسانياً ليصل صداها إلى غرف نوم شعوب العالم، سواء ممن خرج منهم بمسيرات تأييد للقضية أو الذين من الممكن أن يخرجوا إن أحسنا نقل الأحداث كما يفهم هو ويتأثر.
في الحقيقة، ترك أهل غزة من القصص والحقائق، ما يمكن أن تفوق السيوف الماضية بتأثيرها بالمجتمع الأوروبي والأمريكي على وجه التحديد، وهما المجتمعان الذيّن ساهمت حكوماتهما بإيجاد الكيان الصهيوني ودعمته ولم تزل، بأشكال وطرائق بدلّت من جميع الحقائق التاريخية والواقعية لفلسطين واحتلالها وتهجير شعبها..
سآتي على قصتين اثنتين فقط، إن سوقتا بشكل فني ومهني راق، يمكن أن تستميلا كل من يقع بدائرة تلقيهما.
الأولى منشور نشره أحد سكان غزة خلال الحرب" "أغرب ما فعلته اليوم تبادلت أولادي أنا وأخي اخذت منه اثنين من أولاده وأعطيته اثنين حتى لو قصفت يبقى مني أحد، وحتى لو قصف هو يبقى منه أحد".
وأما القصة الأكثر وجعاً ربما وأكثر تأثيراً لدى الآخر، هي التي أرّخها الشاعر "أحمد عاشور" على لسان العاشق حسن "أكاديمي وخطيبته طالبة الطب"، بعد أن قضت تحت الأنقاض جراء قصف بيت أهلها، قبيّل عرسهما بأيام.
أحبك جداً وبعد..
انا الآن تحت القصف كما دائماً من اللحظة التي أغلقنا فيها الهاتف منذ ثلاثة أيام وخمسة صواريخ على بيت عائلتك،
منذ آخر بروفا لفستان العرس ومعجون الحناء
منذ آخر الكلام وطيب المقام
منذ عيد وزغاريد
وجارات وصديقات ومواعيد لحفل الزفاف
منذ أول أولادنا المؤجلين وأول عنادكِ
أقول: أريد طفلاً واحداً
وتقولين: لا / بل عشيرة.
أحبكِ جداً وبعد.. أنا الآن تحت القصف كما دائماً
يدي في جيبي وعقلي في مكانه
أقول: يا شيماء مرَت طائرة
سقطَ الجرس والمئذنة
تقولين: لا بأس الصلاةُ صاعدة
أقول: يا شيماء دمروا الأبراج
وتقولين: لا بأس / بَقي الحَمام
أقول: حطَّموا النافذة
وتقولين: أحسنْ، بهذا أصبح الضوء حراً
أحبك جداً..
وحيث أنني الآن تحت القصف كما دائماً
وتحت الدمار
سيأتِي التُجَار والفُجَار، وتبدأ المؤتمرات، ويُفتح المزاد على البلاد وعلى ما تبقى من عباد
سيشكلون لجنة لإعادة الإعمار واعادة الأبراج
والبيوت المهدمة
وبيتنا يا حبيبتي
بيتنا الصغير الذي سوّيناه حجراً على حجر، ثم غَرِقنا في الديون والأقساط
وغَرِقنا في الشجار على لون الكنب
ولون الحيطان، وفي أي مكانٍ من حديقة بيتنا سنزرع شتلة العنب
ستُعاد لنا الشوارع
والمآذن والحدائق
والكهرباء
وخطوط الماء
أقول: وقد توقف القصف ...
من يعيد لشيماء الدماء".
تصوروا، بدل الخطب الخشبية وتغييب الشعوب والسعي الغبي أو القصدي لتمزيقهم وتفريقهم، أن تترجم حكاية خوف الأول من الفناء فبادل أخاه بعض الأولاد بالمسكن، ليوزع احتمال الموت على اثنين.
أو أن تترجم هذه المعزوفة الموجعة للغات الحية.. تصورا أن تتحول كلماتها لأغنية، تغنى بجميع اللغات، تصوروا أن يستفاد من مشاهد الوجع والخراب وينتج فيلم لشيماء وحسن...وتصوروا أي تسويق موجع وراق تستأهله فلسطين وشعبها وأي كشف لتزييف التاريخ والحقائق سيلحق بدولة الاحتلال.
*عدنان عبد الرزاق - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية