والمجد للأمهات... عدنان عبد الرزاق*

مرة، منذ انطلاقته، اقترحت على تلفزيون "سوريا" أن ينتج برنامجاً حول الأم السورية التي فقدت بالحرب، ولدين أو أكثر، وأسميت البرنامج المقترح "ست الحبايب".

ومقترحي كان لأسباب عدة.

ربما أولها، أن لا أحد مات، مرات ومرات، وهو على قيد الحياة، خلال مقتلة نظام الأسد للسوريين، بقدر الأم السورية، وعلى كلتا الضفتين. فهي من تحمّل العبء الأكبر بالثورة، فكانت أماً وأباً، مربية وعاملة، ومصدر القوة لكل متخاذل أثيم.

 ورأينا ورأى العالم بأسره، أحمال السيدة السورية وفجائعها التي لم يسجلها العصر الحديث بأي بقعة بالأرض.

ومن مبرراتي أيضاً، حق أمهاتنا السوريّات، نقل بطولاتهنّ وأعمالهنّ الخارقة، بتدبر شؤون الأسرة والاستمرار على قيد الحياة وتنشئة أولادهن، رغم الفاقة والاستهداف وحتى العيش بإذلال متعمّد، من الأصدقاء والأهل، قبل الأنصار والمجتمعات العالمية المتحضرة.

كما، خوفي من وفاة تلك المناضلات، قبل نقل قصصهن للتاريخ والإنسانية، كان سبباً بمقترحي أيضاً..ولا حاجة للتطرق لأثر ومفاعيل حديث أم فقدت أولادها، على ضمير المتلقي وصدق الطرح وبالتالي عدالة قضية السوريين.

هنا، سأجيز لنفسي نقل قصة ابنة عمي "ديبة عبد الرزاق أم بسام" التي فقدت خمسة من أبنائها خلال الثورة، والغصة ربما، أن أربعة من بنيها، قتلهم "أخوة المنهج والمتطرفون" سرّاق الثورة والحلم حارفو الهدف والغاية عن السكة والمصير.

 في حين نظام الأسد اكتفى بتغييب ابنها الضابط فقط، وعلى الأرجح أنه صفاه ضمن جرائم القتل تحت التعذيب.

خلال قتل الابن الخامس، بسام وزوجه بتفجير سيارته من فلول داعش، بعد قتل المغوّار فارس الذي كان علامة فارقة بالشجاعة بالشمال السوري بأسره، ومن ثم مقتل باسم وبعده قتل محمد وتغييب صالح، كابرت وتماسكت بكل فيّ من قوى، واتصلت بابنة عمي أم بسام لأعزيها..

ووقتها كانت الصاعقة لا المفاجأة فحسب، إذ كان على الطرف الآخر من الاتصال، سيدة أقل ما يمكن وصفها بـ"الحديدية" فأم بسام أخذت دور المعزي لي، وبدأت تسرد علاقتي بالمرحوم بسام وعيشتنا بدمشق ومكانتي عنده، وأنها تحتسبه، كما إخوته، شهيداً عند الله وفداء لحرية السوريين.

ذاك الاتصال ممّا لا يمكن للنسيان أن يأكله، وقت كساني الذهول بحضرة أم فيها من الإيمان والوطنية على طريقتها، ربما أكثر من شعور الأمومة الذي لا يزيده، بالمنطق والعلم والتجربة، أي شعور.

وإيلام ما بعد الاتصال، يزيد من أوجاع تخليده بالذاكرة والروح، وقت علمت أن "أم بسام" تواسي وتصبّر كل من حولها، لتخلد بآخر الليل لفراشها، فتبكي وتنحب وتناجي أولادها كُلًّا باسمه، وكأنهم أمامها أحياء.

واليوم، بذكرى عيد الأم، سأجيز ثانية لنفسي، الغرق بالذاتي، ليقيني أن ما مرّ عليّ كـ"عدنان" عاشه، أو ربما أكثر، جلّ السوريين.

خلال آخر زيارة لبلدي "سرمين" عام 2014، خرجت أمي للشارع لوداعي، بعد أن قبلتني وبكت وشمّت رائحتي أمام باب المنزل.

أذكر كما التوّ، نزلت من السيارة، قبلت رسها ورجوتها العودة، وأرجعتها معانقاً لباب المنزل وهممت بالمغادرة.

لكنها عادت للشارع ثانية وهي تبكي، قبلت يدها ورأسها محاولاً إخفاء دموعي، وسألتها بعد استعادة كل ما بي من طاقة "ليش عبتبكي يا يام، بكرى ربك بيفرجها وبنرجع نلتم".

ردت بأوجع عبارة لم تزل تحز روحي حتى اليوم "خايفة تكون هي آخر مرة يا عدنان...وموت وما بقى شوفك".

نهاية القول: تبلغ المجتمعات تطورها الحقيقي، وقت تنصف المرأة وتراها كائناً متساويًا مع الرجل، بل وله حقوق أكثر.

وتبلغ الأمم الرقيّ، وقت تزيح السلعنة عن المرأة، ولا ترى بها، مجرد جسد تتسابق لاستغلاله أو الوصول والتسلّق، عبر الادعاء بنيل حقوقه الشكلية.
ولا تستوي العدالة بسوريا برأيي، إلا حين يكون الحكم للأم، والثكلى تحديداً، إن بمصير عصابة الأسد أو من رأى بالمرأة "عورة" فحاربها وحارب باسمها، كل الآمال والحقوق والديانات.

عاودت يدي الارتجاف، ولا ترتجف الأيدي خلال الكتابة، إلا حينما تتطرق للظلم والقهر والخوف، إلا وقت تستذكر الموت والجوع والانتهاك، إلا حينما تحاول تأريخ ما يسكنك من وجع وصيحات مكبوتة..ولا جامع لكل تلك الأسباب، أكثر من "قضية" الأم السورية والحديث عنها.

لكل الأمهات، كل عام وأنتنّ الزاد والزوادة بالاستمرار، كل عام وأنتنّ بخير، يا من خبز بألمه وعجن بدموعه، فطائر الحكمة والحب، ليوزعها على الرجال ومدعي الرجولة، لعلكّن توصلنّ سوريتنا بر الأمان.

* من كتاب زمان الوصل
(214)    هل أعجبتك المقالة (229)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي