أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الجزء الثاني من قصة نزيل "زاوية الجحيم".. كاد يكون صورة من صور قيصر

· اشتكى أحدهم من وجع في يده، فقطعوها له.
· تبولوا علي وحاولوا شنقي ثم دحرجوني فوق الأشواك والأحجار، حتى لم أعد أدري أحي أنا أم ميت

عرضنا في الجزء الأول لقسم من شهادة سوري، مثل أمام محكمة "كوبلنز" التي تقاضي أنور رسلان، حيث روى هذا الشاهد بعض ما عاينه من أهوال الاعتقال في "فرع الخطيب".. وسنواصل معكم عرض الجزء الثاني من قصته وشهادته.

بعد انتهاء الاستراحة التي لم تتجاوز 10 دقائق، عاد الشاهد إلى قاعة المحكمة ليكمل ما بدأه من حديث حول مشفى حرستا العسكري: "من كتر الضرب كان في أيام يغمى علينا. مو لحالي في كتار بالغرفة. ضرب بشكل دائم وتعذيب. في حدا قال إيدو عم توجعوا فأخدوه وقطعوا إيدو ورجعوه. في ناس كتير ماتت جوا. بهاد المشفى بتصور كانوا يجيبوا الناس ليموتوها ويطالعوها. كتير كان في ناس عم تنزف بشكل كبير وما في عناية صحية. هي بالإسم مشفى بس بالحقيقة هي مركز تعذيب".

كنتُ أكتب وراء الشاهد وأشعر بالاختناق أكثر فأكثر، بعض مما حدث معه لم أكن قادرة على تخيله أو حتى فهمه، كالذي أخبر به القضاة بعد ذلك: "كان كل يوم يجي عنصر ويسألني شو اسمك، قلو: 17 ويضل يضربني وهو عم يسألني شو اسمك.. مرة من كتر الضرب، وأنا ما عم أفهم هو شو بدو بالضبط قلتلو آخر شي: بدك اسمي الحقيقي ولا الرقم؟! قام قلي: بدي الحقيقي، مع ضرب كتير وشتم، من كتر ما كنت متوجع وما عاد عندي قدرة أتحمل قلتله اسمي الحقيقي..قام قلي: أنا ما قلتلك لا تقول اسمك الحقيقي وبس الرقم؟! وكمل ضربي بطريقة هستيرية".

* "خدوه كبوه هاد خالص"
لا يذكر الشاهد كم بقي في مشفى حرستا العسكري، ولكنه أخبر القضاة كيف خرج منها فقال: "وضعي صار خطير بالنسبة لظهري ورأسي والدم اللي عم يطلع مني. كلشي بتذكرو آخر شي أنهم قالوا: خدوه كبوه هاد خالص.

رموني بمكان ما بتذكر وين. الدبان (الذباب) كتير كان عم يمشي عليي وما أحسن حرك إيدي لبعدهم عني، كنت متمني أنزل تحت الأرض حتى ما حدا يشوفني. ماعندي شي.. ما عم حس بشي.. بس أنه عندي راس وعم فكر أنو بدي اختفي.. بهداك الوقت أجت سيارة تكسي لعندي شافني الشوفير ونزل لعندي ورفعني شوي قلي أنت مين؟ شو صاير معك؟ وين بيتك؟ فيك تحكي معي؟ أنا كنت بدي أحكي بس مالي قادر أحكي. جبلي مي غسلي وجهي وطالعني بالسيارة معه. لأول مرة قدرت أحكي..قلتله أنا حافظ رقم أمي. دقيت وحكوا معو وقلهم أنا لقيتو بالمكان الفلاني قالولوا جيبوا ومنعطيك يلي بدك ياه. أخدني عالبيت كان أخي وعمي.. حملوني ع البيت وقالولي الحمد لله لساتك عايش لهلأ. ما كان فيي أحكي أخدوني فورا عالدكتور. لما شافني الدكتور قال لأهلي ما فيني أعملو شي لازم يطلع يتعالج برا البلد. عطاني إبر وأدوية ومسكن آلام. تاني يوم أخدنا سيارة وطلعنا ع الأردن أنا وأهلي وفوراً ع المشفى التخصصي بعمان... بقيت 3 شهور بالمشفى عم أتعالج..".

تتدخل القاضية: كيف حال ظهرك اليوم؟ هل تستطيع الجلوس؟ هل هناك ألم؟
الشاهد يبكي ويقول: آسف كل ما بتذكر الموضوع بتعب.
القاضية: هل تحتاج لاستراحة مرة ثانية؟
الشاهد: لا.
القاضية: هل تم إخبار أقاربك وعائلتك باعتقالك أثناء ذلك؟
الشاهد: لا، بس كان في ضابط بيعرفو الوالد وراح لعنده، وقاله الضابط: لا تخاف ابنك عنا وهو بخير. أنا ما كنت عنده ولا كنت بخير. بس وصلت عالبيت لما شافوني قالتلي أمي: أبوك عم يروح لعند الضابط الفلاني وبيعطيه مصاري مشان يعتنو فيك فقلتلهم أنا ما كنت عنده.
بعد هذه الجملة بدأ الشاهد بالبكاء أكثر مما سبق، لقد كان منهارا تماما، ولم يكن مفهوما بعد سبب انهياره، قبل أن يتضح الأمر من سياق جملته التالية.
القاضية: هل أنت بحاجة استراحة؟
الشاهد: نعم
القاضية: هل تكفي 10 دقائق أخرى؟
الشاهد بعد برهة من الصمت: والدي توفى العام الماضي وصار لي زمان ما شفته..
القاضية: استراحة لمدة نصف ساعة وأرجو من المترجمين أن يعتنوا بالشاهد خلال هذا الوقت.

*ضحية حية
لم يكن المترجمون فقط هم من خرج مع الشاهد، بل خرجت أنا كذلك لحرصي على اللقاء به والتحدث معه، وبالفعل قضينا (هو وأنا) قرابة 45 دقيقة حتى استطاع التقاط أنفاسه والعودة إلى المحكمة. خلال هذا الوقت أخبرني الشاهد بالكثير مما لم يخبر به القضاة، بل وأطلعني أيضا على أمور مفجعة.

قال لي إنه يعتذر لشدة بكائه في المحكمة، وإنه لم يرد ذلك ولكنه لم ير والده منذ خرج من سوريا للعلاج، موضحا أنه لجأ مع عائلته إلى بلد أوروبي بعد عدة سنوات، لكن والده رفض الالتحاق بهم، لأنه لم يشأ مغادرة سوريا، وقد توفي بعد أن "صدمه ضابط بسيارته".

حاولت التخفيف عنه، وأخبرته أنه ليس بحاجة للاعتذار، وأن ما يقوم به في هذه المحكمة هو شيء عظيم، قد لا يقدر عليه كثير من الناس، لاسيما عندما يتعلق الأمر باسترجاع ذكريات مفجعة وقاسية، لا يزال يحمل علاماتها على جسده حتى اليوم.

تابع: "سأريك كيف كنت عندما خرجت، أحتفظ بمقطع قبل معالجتي".. يفتش في جواله ونحن نتمشى بالقرب من المحكمة، وما إن يجد المقطع، حتى يعطيني الجوال... أنظر (أنا كاتبة التقرير) إلى المقطع فأرى الجروح المفتوحة في جسده ولون الجلد المزرق والمصفر.. هنا لا يسيطر على ذهني سوى شيء واحد فقط، أردده بيني وبين نفسي: "يا إلهي كم يشبه الضحايا في صور قيصر! غير أنه حي!".

لم أخبره بما جال في خاطري واكتفيت بالتعقيب: "حمدا لله على سلامتك، المهم أنك بخير اليوم واستطعت تجاوز كل ذلك".

ينوه: "هذا الفيديو خاص فيي وما بفرجيه لحدا، بدي بس احتفظ فيه لنفسي"، ثم يصمت قليلا قبل أن يكمل موضحا أنه لم يكن مؤيدا للنظام، وأن عائلته "عائلة معارضة"، وقد سبق لأقاربه (خالان وعمّ) أن انضموا للجيش الحر، ولكن بسبب مكان سكن الشاهد وطبيعة عمله لم يستطع التحرك وفعل شيء.

واستفاض: "حكى معي خالي بعد ما وصلت للأردن وقال لي: ما على قلبك شر، اهتم بحالك هلأ، ونحنا رح ننتقم لك من الي ساووه فيك، لكن خالي استشهد، كلهم استشهدوا.. وأنا هلأ ندمان لأني ما رحت معهم من البداية، يمكن لو انضميت إلهم ما كان صار الي صار معي".
الشاهد لم يشأ أن يطلع أحدا على المقطع الذي أراني، ولكني حصلت منه على صورة لذات الجروح في منطقة الظهر فقط، كان من المفترض أن تعرضها محكمة "كوبلنز" في القاعة، ولم تقم بذلك لسبب لا نعلمه، وعليه فإن هذه الصورة تنشر لأول مرة وبشكل حصري في "زمان الوصل".

نتابع سيرنا، فيتابع حديثه: "أنا ما خبرت المحكمة بكل التعذيب الي تعرضت له، حكيت بشكل عام، ما شافوا إلا ضهري بس، إيدي التنين من الطرفين عليهم علامات إطفاء السجائر.. ما خبرت المحكمة كيف كانوا يتبولوا علي.. ما خبرتهم كيف أنهم  بالفرقة العاشرة لفوا حبل مشنقة على رقبتي وحطوني بمكان مرتفع وقالو لي: اعترف.. ما كان عندي شي اعترف فيه، ما عرفت شو بدهم.. لو عرفت لقلت لهم، بس ما عرفت، بعدين قال واحد منهم: الظاهر ما بدو يعترف.. ارموه، بتذكر أنهم رموني وبلشت أتدحرج من مكان عالي كتير على تلة فيها أشواك وأحجار، بقيت أتدحرج لمدة طويلة لحتى وصلت لمكان وقفت.. ساعتها ما عرفت شو صار معي، بقيت هيك كم ساعة بدون ما أسمع صوت حدا منهم، أو حتى شوفهم.. كنت لوحدي تماما.. ساعتها كنت بين الصاحي والمغمى عليه.. هل هم شنقوني بالفعل؟ أنا حي ولا ميت؟ بعد كم ساعة إجوا وأخدوني للسجن من جديد".

رغم قساوة ما كان يسرده من تفاصيل، إلا أنه بدا مرتاحا أكثر بالحديث مع شخص واحد، فلا أحد يستطيع أن ينكر ما للمحكمة والحديث أمام كل أطراف الدعوى والقضاة من عبء يرمي بثقله على كاهل الشهود.

بعد انتهاء الاستراحة كان لابد لنا من العودة إلى قاعة المحكمة لاستكمال شهادته أمام القضاة.

القاضية: أتمنى أن تكون قد تحسنت، وأن يكون المترجمون قد اهتموا بك بشكل جيد حتى نستطيع أن نكمل؟
الشاهد: أنا آسف جدا ع الإزعاج وشكرا كتير.

بعد عودة الشاهد لم تستمر الجلسة أكثر من 5 دقائق، حيث أعلن جميع أطراف الدعوى عدم وجود أسئلة لديهم، ولأول مرة يقول جميعهم، حتى طرف الدفاع عن المتهمين، قبل أن يعلنوا عدم وجود أسئلة لديهم: "نحن نشكرك كثيرا لمجيئك ولكل ما أدليت به هنا".
عادة ما تنهي القاضية الجلسة بشكر الشهود بلغتها الألمانية، تاركة مهمة ترجمة كلماتها للمترجمين، لكنها وفي حالات تكاد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة -منذ بداية المحاكمة وحتى الآن- قامت بتكرار شكرها للشاهد -بعد اللغة الألمانية- بلغة الشاهد الأم، أي باللغة العربية، وهذا ما فعلته مع شاهد "زاوية الجحيم" حين ختمت الجلسة بقولها له: شكرا.

الجزء الأول

لونا وطفة- زمان الوصل- خاص
(306)    هل أعجبتك المقالة (269)

Fade nassar

2021-01-09

اين الجزء الأول من القصة زاوية الجحيم.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي