منذ سنواتٍ يتعايش المجتمع السوري، في مناطق النظام، مع جثَّة الدولة المتحلّلة.
في المرحلة الأولى للتحلُّل، كان الوضع مُحتمَلاً حيث "الجلْد" ما يزال محتفظاً ببعض التماسك القادر على حبس الروائح وحجب المنظر المرعب للأحشاء التي راحت تأكل نفسها.
في المرحلة الثانية، وهي مرحلة اليوم، بدأ المجتمع في مناطق النظام يشعر بالاختناق والقرف مع تفسُّخ الجلد وانتشار الرائحة النتنة.
ومع اقتراب الدخول في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التحلُّل الشامل والكامل والمروّع، لن يكون أمام هذا المجتمع، في مناطق النظام، إلا التخلُّص من الجثَّة وتدبُّر أمره بنفسه.
***
نظام الأسد بات مجرَّد مربّعات أمنيَّة متناثرة في المناطق، ومجرَّد صورة مُخرَّقة تستعملها قوى الاحتلال لإخفاء وجوهها. مؤسَّسات الدولة اضمحلَّ دورها مع اضمحلال قدرتها على تأمين المواد الأساسية للمواطنين. فقدان الأمن أدَّى إلى فقدان "هيبة الدولة". أمَّا فقدان الرغيف فأدَّى إلى فقدان "الدولة" نفسها حتى في أعين أشدّ المناصرين.
المجتمع في مناطق النظام بات عبداً جائعاً. معادلة العبودية مقابل الرغيف انتهت إلى غير رجعة. لأنَّ العبودية الجائعة و"الحاف" هي كلّ ما تبقَّى.
***
إنَّ فشل الوصول إلى مرحلة انتقالية سياسية في سوريا، أدَّى لوصولنا -قسراً- إلى مرحلة انكشافية فوضوية تُرمى فيها جثَّة الدولة في حضن المجتمع.
إنها مرحلة الانكشاف الكامل للمجتمع السوري وخسارته لكلّ مظلَّات "السياسة" والاقتصاد والأمن، ولو بحدودها الدنيا. بل إننا قد بلغنا نقطةً بات يمكن الحديث فيها عن خسارة مظلَّة القيم الاجتماعية أيضاً، في ظلّ هذا التفكُّك الاجتماعي الرهيب.
وبعدما كان مرجوَّاً أن تأتيَ المرحلة التي يتمّ فيها نقل السياسة من الشكل الاستبدادي إلى الشكل الديموقراطي، نجدنا في مرحلةٍ يتمّ فيها انتقال السياسة من الشكل الاستبدادي إلى اللاشكل (الفوضى الكاملة).
وعوض أن تنتقل السلطة من جهةٍ سياسيةٍ إلى جهةٍ سياسيةٍ أُخرى، تضعف هذه السلطة إلى درجة الـمَوَات، ليتمّ تناتُشها عشوائياً من قبل قوى إجرامية طفيلية نبتت على ضفاف أنقاض السلطة السابقة، بينما يقف المجتمع السوري متفرّجاً!
وإذا كانت مرحلة الانتقال السياسي تمتاز ببعض قواعد الأمان المستندة إلى خريطة طريق واضحة مع وجود رعاة خارجيين ومؤسسات داخلية متماسكة، فإنَّ مرحلة الانكشاف السياسي المجتمعي التي نعيشها، تبلغ من الخطورة مبلغاً كبيراً، حيث الغياب الكامل للرؤية السياسية مع حضور هشّ لبقايا مؤسَّسات متهالكة هي كلّ ما تبقى من هيكل الدولة، ناهيك عن العبث الذي ترعاه وتُوسِّع من رقعته الجهاتُ الخارجية المعرقلة لحصول التسوية السياسية المنتظرة.
الأمراض المجتمعية سيكون حضورها مدمّراً في مرحلةٍ تتألَّف من سلسلةٍ من الانهيارات. وكلُّ ما لا يمكن أن يخطر على بال سوري قبل سنواتٍ سيراه في مجتمعه، لأنها مرحلة سقوط حرّ على المستويات كافَّة.
الفراغ الذي أحدثه موت الدولة داخل مناطق النظام، إذا لم يبادر المجتمع السوري إلى ملئه بالكوادر الفاعلة فسيتمّ ملؤه بعصابات الخطف والجريمة والمخدّرات كما يحصل اليوم في العديد من المناطق.
إنَّ تفعيل القوى المجتمعية (من مثقَّفين وناشطين ووجهاء محلّيين ورجال دين وسيّدات مجتمع وكلّ الفاعلين في مناطقهم) لتأخذ زمام الأمور بيدها من خلال تشكيل هيئات إدارية أهلية في كلّ قرية وبلدة وحيّ ومدينة، مهمّتها إدارة وتسيير أمور المناطق بشكل مباشر، مع استعمال مرافق الدولة ومؤسّساتها قدر المستطاع... هو بمثابة إنشاء المظلَّة التي يمكنها التخفيف من أضرار هذا السقوط الحرّ، والحؤول تالياً دون انتقال تلك المناطق من مرحلة تحلُّل الدولة إلى مرحلة تحلُّل المجتمع.
*شاعر وكاتب سوري - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية