سيكون على السوريين المهتمين بشأن اللجنة الدستورية، وهم قلة قليلة، انتظار جولات وجولات من الاجتماعات الجنيفية طويلة المدى، انتظار لن يكون في نهايته إنجازا لدستور ولا حتى مبادئ دستورية، بل إعلان عن فشل التجربة، وهذا يبدو أنه مراد الراعي الأول للمارثون الدستوري، وهو "الراعي" الروسي.
ربما لأنه يريد في لحظة ما أن يفرض دستوراً مسبق الصنع، أو لعله يُطبخ الآن في غرف مظلمة، يتناسب مع ما يرسمه لبقعة جغرافية، أي سوريا، خاض أجداده في سبيل الوصول إلى شواطئها "المياه الدافئة" 11 حرباً، والآن ربما يحتاج لمثل هذا العدد من الحروب والصراعات حتى يخرج منها، كيف لا وقد أصبح صاحب الدار، وقبل أن يطأها رسمياً، حدد الطائفة التي يجب أن يكون منها الرئيس، إذ يُنسب لوزير الخارجية سيرغي لافروف، وهذا معروف للجميع، قوله "سوريا لن يحكمها سني".
يعرف المشاركون في اللجنة الدستورية من كل الفئات معارضة ونظام ومجتمع مدني، أن الدستور يمثل روح الأمة والمحدد العام للممارسات السياسية العامة وراسم الخطوط العامة ليوميات الناس، ويعرفون أيضا أن الدستور عادة تصيغه لجان منبثقة عن برلمان منتخب بالتعاون مع خبراء دستوريين وقانونيين، ومن ثم يُعرض للاستفتاء العام.. ويعرفون أيضاً، أو هكذا يفترض، أن التجارب السابقة للمفاوضات، الجنيفية منها والأستانية "أستانا"، لم تنتج أي مكتسب ولم تنجز أي خطوة للأمام، بل على العكس ساهمت في التعمية وتجاهل القرار الدولي الأهم في المسألة السورية، ناهيك عن ترسيخها لدور روسيا السياسي في سوريا عالميا.
أفشلت المفاوضات مرات ومرات، وفشلت مرات وستفشل أيضاً، لكن أحداً من المشاركين لم يكتسب شرف الخروج للناس والقول إنه سيبتعد عن هذا المضمار لأن لا طاقة له به، أو أن نفسه تأبى المماطلة والمساومة واللاجدوى، أو أنه وقع في الخطأ وقرر التراجع عنه، وإن حدث وابتعد أحدهم عن الساحة، تجدنا نكتشف فيما بعد أن هذا الابتعاد جاء نتيجة ضغط من جهة سياسية أو دولة راعية..
يقال إن الجغرافية السورية، ولأهميتها، تحولت للعنة أطالت عمر المأساة، فسوريا محاطة ببؤر توتر ربما هي الأعقد والأكثر تداخلا في التاريخ السياسي، ناهيك عما تحمله بين جنباتها من لعنات التاريخ.
هذا بلا شك، لا يختلف عليه اثنان، لكن هناك لعنات أخرى داخلية – تتعلق بطبيعة العلاقة بين السوري ووطنه، وهي علاقة، قد لا أبالغ، إن قلت إنها بحالة تلاشي، وإن وجدت فهي ملوثة بالانتماءات والولاءات الثانوية، ويطول العد إن أردنا ذكر هذه الولاءات ابتداءً من الولاء للعشيرة والمدينة والطائفية وصولا إلى اسطنبول وطهران وجبال قنديل وكهوف أفغانستان وما بينهما من ولاءات الاسترزاق و"الوعود" التي تذكرنا بما اعترف به يوما رئيس الوزراء العراقي الأسبق "إياد علاوي" من أنه تعامل 15 جهاز مخابرات.
أما لعنة الـ"أنا"، سواء أكانت على مستوى الأشخاص أم على مستوى هيئات وجماعات سياسية، فهي أم اللعنات، وأكثرها فتكاً بكل أمل، وأكفأها تعطيلا لأي عمل أو تفاهم، فهي التي تجعل من الآخر المختلف "شراً" مطلقا، ومن الحليف خيراً مطلقا.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية