المحتوى الإعلامي البصري مازال يمعن في سيطرته على الفئات الإعلامية الأخرى مستفيداً من القفزات الهائلة في مجال الاتصالات، التي وضعت التلفزيون والسينما ضمن مساحة الكترونية لا تتجاوز ححجم الكف، ولعل وباء كورونا، الذي استطاع أن يلزم ثلاثة أرباع سكان هذا الكوكب منازلهم، أوجد مزيداً من الحميمية بين البشر وبين الديكتاتور الافتراضي الذي بات أكثر تأثيراً في لحظات حياتنا من أي شيء آخر اكتشفته البشرية.
نسبة كبيرة من الناس وجدت في اللجوء إلى هذه المساحة الاكترونية، خلال فترات الحجر الصحي، أداة للتخفيف من ثقل الوقت، وفرصة لمتابعة بعض البرامج أو المسلسلات الدرامية، مما فاتهم متابعته، فهم يملكون ترف الخلاص من ديكتاتورية الجهاز الواحد في البيت وأزمات الرغبات المتعددة لأفراد العائلة حول ما يجب مشاهدته، فلكل منهم اليوم "جهازه" الذي يضع العالم كله بين يديه.
تابعت خلال الفترة الماضية بعض ما يبث عبر اليوتيوب من قضايا تتعلق بالدراما السورية وما تتضمنه من مهاترات بين الفنانين، منها حول علاقاتهم الشخصية وأخرى تتعلق بالموضوعات التي باتت تطرح درامياً..
أستطيع القول على الأقل ضمن ما رأيته، ولا أزعم أنني من المتابعين الجيدين، أن كل شيء يتجه وبتسارع نحو القاع، فلا يكفي أن الدراما تم توظيفها لخدمة أغراض سياسية فجة، وأخرى غايتها العبث بالتاريخ، بل هي الآن تواصل ما بدأته منذ سنوات، من ضرب للبقية الباقية من آداب مجتمعية.
كثر توقفوا عند مسلسلات البيئة الشامية، وثارت ثائرة المعنيين، حول سؤال هل كانت دمشق كما تصورها الدراما أما لا؟.
الحقيقة، رغم أهمية ما ذهبوا إليه، إلا أن الطامة الكبرى ليست في هذا السياق وحسب، بل بضرب المفاهيم وأخلاقيات المجتمع، بمعناها المتعارف عليه، وليس بالمعنى الفلسفي، والتي تشكل عادة القوة الناعمة والنسيج الخفي الذي يحافظ على الحد الادنى من تماسك أي المجتمع..
هذه الدراما، ولا أتمنى أن تكون قد أصبحت فعلا مرآة حقيقية للمجتمع، يبدو أنها ما عادت تعرف العيب، فكل شيء مباح، وفق تبريرات، أقل ما يقال فيها أنها تافهة، ولا تحمل الحد الأدنى من الإحساس بالمسؤولية، فهي، أي الدراما، وبدل أن تكون وسيلة لسد الفجوات التي أحدثتها الحرب في بنية المجتمع، ما برحت تواصل توسعة هذه الفجوات وسكب سمومها فيها، وتحول القائمون عليها لتجار حرب وجدوا في التداعيات التي تفرضها الحروب عادة، مساحة أوسع من الخيارات لممارسة المزيد من التخريب الذهني.
قد لا يكون دور الدراما تجميل الواقع، وهذه إشكالية تخصصية بحتة، لكن المؤكد أن ليس من أدوار الدراما أن تصبح معولاً يهدم جدران هذا الواقع الهشة أصلا، فالأسرة السورية تعرضت خلال العشرية الأخيرة، لضربات أصابتها بالمعنى الفيزيائي، فلا البيت موجود ولا الجيران، وأخرى تمزقت بالمعنى البشري، إذ تجد أبناء العائلة الواحدة موزعين على القارات الخمس، كل هذا لاشك أنه ترك ندباً وتشوهات في محددات العلاقة بين أبناء الأسرة الواحدة، وبين هذه الأسرة وبقية مكونات المجتمع..
الحالة التوعوية عبر الإعلام والدراما ذات الطبيعة المباشرة، لاشك أنها عديمة النفع، ولا تذكرنا إلا بمدرسة الاعلام السوفييتي والمنظومة الاشتراكية التي أثبتت فشلها بجدارة، لكن بالمقابل نجد، في النموذج الأمريكي، ترويجا للقيم الأمريكية عبر الإعلام والدراما والسينما، وحتى في أفلام الرسوم المتحركة.
لكل مجموعة بشرية قواعد أوجدها التراكم الثقافي التاريخي، وباتت بمثابة عقد اجتماعي غير معلن يتم التعاطي معه "آليا"، وبالتالي من باب أولى وجود رسالة لأي عمل، وبشكل خاص الدراما، رسالة تهدف لخلق حالة ذهنية تساهم في إنعاش خلايا جسد المجتمع التي تلفظ أنفاسها الأخيرة..
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية