أثار منح النظام لروسيا عقداً في مدينة تدمر التاريخية بخصوص ترميم "قوس النصر" الشكوك من جديد عن الدور المشبوه للاحتلال الروسي في نهب وتهريب الآثار السورية.
وكان مدير متحف "إرميتاج" الروسي، "ميخائيل بيتروفسكي"، قد وقّع مذكرة تفاهم مع هيئة المتاحف والآثار التابعة للنظام في أواخر تشرين الثاني نوفمبر /2019، لترميم بعض المنشآت التاريخية والقطع الأثرية في تدمر.
وأعلن المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا "محمود حمود" في آذار مارس الماضي أن توقيع الاتفاق مع روسيا لترميم "قوس النصر" الأثري بمدينة تدمر تمّ تأجيله بسبب الإجراءات المتخذة لوقف تفشي وباء "كورونا"، وإغلاق المطارات -حسب وكالة "سبوتنيك" الروسية.
ويعتبر الباحث الآثاري السوري "سعد فنصة" أنها ليست المرة الأولى التي تشهد مدينة "تدمر" الموضوعة من قبل "يونسكو" على قائمة التراث العالمي حالات تعد على آثارها وعلى ذاكرة سوريا الوطنية.
وفي حديث لـ"زمان الوصل" يقول "فنصة" الذي عمل لفترة تقارب 30 عاماً في حقل الآثار إن سوريا كانت طوال عقود مسرحاً لمثل هذه التعديات مضيفاً أنه شهد بنفسه بعض التحقيقات "الكاريكاتورية" التي كانت تجري إثر السرقات الكبرى للمدن التاريخية، حيث كان السارق المحمي بسلطة الأمر الواقع ينقل الأحجار الأثرية الضخمة والتماثيل الإنسانية وتيجان الأعمدة التي يبلغ وزنها مئات الأطنان وتُنقل بالرافعات وتهرب عبر المنافذ الحدودية، ويُلقى القبض على المنفذين ويبقى صاحب الأمر بمنأى عن أي محاسبة أو ملاحقة.
واستدرك الباحث الذي عمل مديراً لقسم التصوير والتوثيق والأرشيف العلمي للآثار السورية في المديرية العامة للآثار والمتاحف أن بعض كبار ضباط الجيش وفي مقدمتهم رفعت الأسد وأفراد من الدائرة المحيطة بحافظ الأسد وبعض الشخصيات المعروفة في الأمن العسكري وغيرهم دأبوا على ممارسة النشاط غير القانوني في نهب وسرقة وتهريب وبيع الآثار السورية، وعندما خرج رفعت الأسد في سوريا، في العام 1984 -كما يقول- تسلم هذه المهمة النجل الأكبر لحافظ الأسد، "شهيد المرسيدس" باسل الأسد.
ووفق تأكيد المؤرخ العالمي "أندرياس كيلب"، أن تهريب الآثار السورية والإتجار بها كان من اختصاص "رفعت الأسد" في ثمانينات القرن الماضي الذي "خرج من سوريا بثروة هائلة جناها من عمليات التهريب لسنوات طويلة مكّنته من شراء شارع كامل في باريس، وورث ماهر الأسد مهنة عمّه لتزدهر قبل اندلاع الثورة وخلالها، وتصبح حكراً على آل الأسد.
وينقل "فنصة" عن عالم الآثار الإسباني "رودريغو مارتن" الذي قاد العديد من بعثات التنقيب في سوريا قوله: "الحقائق تبين أن الحكومة تعمل مباشرة ضد التراث التاريخي للبلاد".
ولفت إلى أن لروسيا أهدافاً بعيدة من سوريا تتعلق أساساً بـ"الجيوبوليتك" الروسي حول المنطقة، واستعادة السيطرة مرة أخرى على شرق المتوسط، الذي كاد أن يفلت منها خصوصاً بعد انهيار الإتحاد السوفييتي عام 1991. وأردف أن "موضوع نهب الآثار والسيطرة عليها هو غطاء هزيل لتدخل أكبر بعد قيام أكثر من جهة في نهب آثار تدمر ... (حكم الأسد ومخابراته، وتنظيم الدولة الذي احتل المدينة وخرّب آثارها، والمليشيات الإيرانية المدعومة من طهران).
ونوّه أشهر مصوري الآثار في سوريا إلى أن هناك تنافساً واضحاً وتنازعاً جلياً على تقاسم مناطق السيطرة والنفوذ بين جهات الاحتلال الثلاث: "عصابة النظام الأسدي، الذي يفتقر لأي معايير وطنية، وعصابات الحشود الطائفية الإيرانية التي بدأت منذ زمن بتأسيس مزارات وهمية ومدارس عقائدية دينية تستحضر التاريخ الدموي لأوهام الإنتقام المذهبي، وأخيرا مناطق النفوذ الحربي والعسكري الروسي وما يرافقه من دعاية إعلامية روسية الهدف منها منح التدخل الروسي أغطية أخرى تتعلق بالتنقيب عن الآثار وبعض أعمال الترميم أو إدعاء الإشراف عليها".
وأعرب المصدر عن اعتقاده بأن هناك أهمية قصوى للسيطرة على الحوضة التدمرية الواسعة بامتداداتها الجغرافية، ولربما التكنولوجيا الروسية ( المتخلفة) والتي حاول القزم الروسي تقديمها الى أسواق العالم بأنها ( تطورت) قد كشفت عبر الأقمار الصناعية حقولاً جديدة لثروات لم تكن معروفة من قبل، غير ثروة النفط والغاز، إضافة إلى أن تدمر وغناها الأثري قد يكون مزوداً جديدا للمتاحف الروسية بعد أن اتخمت المتاحف الأوربية والغربية بالآثار السورية.
وكان فنصة قد خبر غالبية نشاط البعثات الأثرية وخبراتها في أعمال التنقيب العلمي أو الترميم الأثري إما بالمعرفة الشخصية وإما بمتابعة وقراءة أبحاث غالبية هؤلاء، وعلى ضوء ذلك قلّل من حجم الدور الروسي الأثري في سوريا سابقاً مع أن روسيا كدولة لا تفتقر –حسب قوله- إلى الخبرات التاريخية والباحثين والمؤرخين الهامين، إلا أنها في سوريا من الناحية الأثرية كانت فقيرة جداً من حيث الأعمال والخبرات التي عملت في حقل الآثار، وإن كانت عملت في قطاعات أخرى تتعلق بالإنماء خلال الحقبة الشيوعية كالسدود والمنشآت، وغيرها من حقول مغايرة.
وحول محاولة النظام إقحام الروس في مجال التنقيب عن الآثار والتأهيل السياحي –حسب زعمه- لفت "فنصة" إلى أن سوريا اليوم تلفظ أنفاسها وباتت ركاماً من الخراب والجثث والمقابر الجماعية وبحاجة إلى عشرات السنين كي يستعاد بعض مما كانت عليه.
وتابع أن "هناك مدناً وحواضر فقدت أو دمرت، وهُجر آهلوها، والبقية الباقية من الناس أموات بهيئة أحياء، فعن أي سياحة وآثار وترميم يتحدث هؤلاء"، واستطرد محدثنا: "هذه اللعبة ليست أكثر من دعاية سمجة الهدف منها الحصول على تمويل من اليونسكو. وبعض المنظمات الدولية الأخرى، لدعم الوضع الاقتصادي الروسي".
وكشف الخبير الآثاري نقلاً عما قال إنها تقارير من داخل غرف القرار لأعضاء "حكم العصابة" في دمشق، أن هناك مافيات روسية على أرض تدمر حمت خطوط التهريب للآثار التدمرية وغيرها عبر شخصيات روسية نافذة من ضباط خبراء تفكيك المفخخات وشخصيات أخرى وكانت تمنع دخول الخبرات الدولية سورية وأوروبية جاءت للكشف عن الأضرار التي قامت بها عصابات تنظيم "الدولة".
بينما كانت عمليات الحفر في الحرم الأثري للمدينة تقوم على قدم وساق، وسمحت لمافيات محددة من الضباط الروس بتهريب تماثيل ومومياءات تدمرية مكتشفة حديثاً في بعض المدافن، والكلام مازال لـ"فنصة".
وأعرب "فنصة" عن اعتقاده بأن إحراق الواحة التدمرية منذ أشهر كان جزءاً من الصراع المافيوي الروسي الإيراني، في منطقة تكثر فيها المدافن التدمرية الغنية بالمحتويات الأثرية التقليدية، مضيفاً أن "المسألة تتلخص بأن اللصوص دائما يبحثون عن الذهب، وليست مسألة ترميم حاضرة كتدمر تكلف مليارات الدولارات وتحتاج بحكم العمل الاثري الدقيق والبطيء إلى عشرات السنين والكثير من الخبرات المعقدة والنادرة".
واستعاد الباحث السوري قصة كان شاهداً عليها تتعلق بمسرحية التنقيب في أعماق البحر أمام شواطئ طرطوس لانتشال الآثار الغارقة وكان ذلك –حسب قوله- مجرد غطاء للبحث عن أشياء أخرى، وخلق حالة من "الحقوق التاريخية" المزعومة للروس على شواطئ المتوسط حول اكتشافات جديدة محتملة للثروات الباطنية، مع بقية الدول المطلة على الحوض ومن أهمها تركيا واليونان و"إسرائيل".
فارس الرفاعي- خالد محمد - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية