لا أدعي أنني كنت في يوم من الأيام قريبا من وزارة الخارجية خلال عملي الصحفي في سوريا، بل أؤكد أنني لم أكن أعرف موقعها في دمشق، قبل أن تنتقل إلى ذات مقر رئاسة مجلس الوزراء الجديد في كفرسوسة في العام 2008 على ما أعتقد. كما لم يسبق لي أن رأيت أحدا من وزراء خارجية سوريا، ولا من معاونيهم أو سفرائهم أو أي من موظفيهم الكبار.
إلى هذا الحد كانت هذه الوزارة بعيدة عني وأنا بعيد عنها، لكن في قرارة نفسي كان يخالجني إحساس، منذ أيام فاروق الشرع، بأن وزارة الخارجية تمثل وجه النظام الجميل، مقابل سلوك حافظ الأسد القبيح، بينما اختلف هذا الأمر في عهد بشار الأسد، فأصبح كليهما قبيحا.
ولا يرتبط هذا الأمر بالثورة السورية وموقفي المناصر لها، ودور وزير الخارجية في سوق الأكاذيب شأنه شأن أي عنصر مخابرات، أو شأن أي إعلامي في تلفزيون النظام، لكن ذلك يعود إلى السنوات الأولى من حكم بشار الأسد، عندما أصبح وزير الخارجية يلعب دورا أصغر بكثير من دور حسن نصر الله، في رسم سياسة سوريا الخارجية. وأنا هنا لا أحمل المسؤولية لـ"فاروق الشرع" أو "وليد المعلم" أو أشكك في مدى كفاءتهما بتولي هذا المنصب، بل قد يكونا من أحنك ما عرفت المنطقة العربية من وزراء خارجية، وإنما أحملها كلها إلى صبيانية بشار الأسد، الذي جعل من سوريا دولة أوغاد، ليس لها أي وجه جميل، بعدما أراد أن يكون هو صاحب هذا الوجه الوحيد.
وبإمكاننا أن نسترجع الأحداث الخارجية البارزة التي مرت على سوريا في عهد بشار الأسد، منذ الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003، إلى اغتيال رفيق الحريري والانسحاب المذل من لبنان في العام 2005، إلى تدمير العلاقات مع السعودية و مصر، في أعقاب حرب إسرائيل وحزب الله في العام 2006، وصولا إلى أحداث الثورة السورية في العام 2011، والتدخل الخارجي فيما بعد في هذه الأزمة.. سوف نجد بأن وزارة الخارجية كانت صورة طبق الأصل عن النظام وأجهزة مخابراته، الذين تسللوا إلى الوزارة وأصبحوا هم من يديرون عملها الدبلوماسي، لدرجة أنه في سابقة نادرة في تاريخ العلاقات الدولية، فقد خضع وزير الخارجية وليد المعلم للعقوبات الأمريكية والأوروبية مثله مثل رامي مخلوف، بينما الدول المحترمة تحرص على تحييد هذا المنصب عن تبني أي موقف فيما يخص القضايا الداخلية للبلد. أو على الأقل لا يخرج وزير خارجية في مؤتمر صحفي ويتحدث بنفس الطريقة التي تتحدث بها بثينة شعبان وجميل الحسن وبهجت سليمان.
وعدا عن ذلك، فإن المطلعين على واقع التعيينات السياسية في سوريا، يشيرون إلى أن النقلة التي حدثت عند تولي وليد المعلم وزارة الخارجية خلفا لفاروق الشرع في العام 2006، حدثت معها نقلات أخرى على صعيد تركيبة هذه الوزارة، إذ أن "الشرع" سابقا كان هو من يختار شخصيا جزءا مهما من كادرها الدبلوماسي والتقني، ويسيطر إلى حد بعيد على أغلب تعييناتها، بفضل التفويض الذي كان قد منحه إياه حافظ الأسد واستمر به إلى عهد بشار الأسد، والذي ترافق كذلك مع منع أجهزة المخابرات من التدخل المباشر في عملها، إلا أن الأمر اختلف كثيرا مع مجيء "وليد المعلم"، الذي تحولت الوزارة في عهده إلى مؤسسة حكومية عادية، لا تختلف كثيرا عن وزارة التنمية الإدارية.
يعزو الكثيرون هذا الوضع إلى عقلية بشار الأسد ذاته، الذي همش كل أجهزة الدولة، وألغى الحدود الفاصلة فيما بينها، بحيث أنك في عهده لم تكن تميز وزارة عن أخرى أو وزيرا عن آخر، وكنت تستطيع أن تخلط الوزراء مع بعضهم البعض وتعيد توزيع الوزارات عليهم، دون أن يغير ذلك شيئا في وضع هذه الوزارات.
ويروي الكثير من المقربين من وزير الخارجية وليد المعلم، الذي توفي اليوم، بأنه كان شخصا محنكا سياسيا، ودبلوماسيا متمرسا لا يشق له غبار، لكن عيبه الوحيد أنه ارتضى أن يمارس أدوارا وضيعة بتوجيه من بشار الأسد، كان آخرها دوره في أحداث الثورة السورية، التي حولته إلى شخص وغد في نظر قسم كبير من السوريين.. وهاهو اليوم بدل أن يسمع منهم كلمات الرحمة التي يحتاجها، فإن اللعنات ترافقه إلى مثواه الأخير.. فما هذا المصير الذي اخترته لنفسك يا وليد!
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية