في الفترة السابقة لأزمة كورونا، التي وضعت أزمات أخرى على الرف وقللت من سخونتها، وأتاحت الفرصة لكثير من قادة العالم للتفرغ لمصالحهم الحزبية، في تلك الفترة شكلت ظاهرة "الاسلاموفوبيا" الشغل الشاغل لوسائل إعلام فرنسية، لاسيما المرئية منها، لدرجة أن المتابع لها يعتقد أن معركة تجري خارج بيته، المسلمون أحد طرفيها، لكن عندما تخرج تجد أن المقاهي والمحال والشوارع تعج بالناس من كل الاديان والاعراق والألوان، في مشهد يندر أن تشاهده على الشاشات نفسها.
هذا لا يعني أن أزمة ما، لها علاقة بـ"الاسلاموفوبيا" غير موجودة في الدوائر المجتمعية تتعامل معها القوى السياسية بما ينسجم مع طروحاتها النظرية وحساباتها المرحلية، وبالتالي القول بعدم وجود أزمة بالمعنى الكامل هو ضرب من السذاجة، فما يطرح يتعلق بهوية البلد ككل وبمعتقدات سياسية وفكرية وتصورات ديمغرافية، يرى كثر أنها تتعرض لخطر تحول جذري سيأخذ شكلا على النقيض من الشكل التي وجدت عليه منذ مئات السنين إن لم نقل آلاف السنين.
هذا الإحساس بالخطر، شيء لايمكن نزعه بقرار أو بفعل آني ولا حتى بتجييش، مثلما لايمكن أن تلوم من يتحسسه.
الدخول في "فلسفة" تأزم دين ما، مسألة يحتاج الحديث فيها لرجال دين وفلاسفة، فإطلاق أحكام سريعة على أديان من خلال أوضاع أتباعها يجعلنا نطلق حكما يفتقد للعلمية، مفاده أن جميع الأديان تعيش أزمة حقيقية، لأن العالم كله تقريبا يعيش في أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، ناهيك عن جفاف منابع إنتاج القيم العليا، في الوقت الذي تتفشى فيه القيم المادية الاستهلاكية التي حولت البشر لمجرد شرائح رقمية، ومن مؤشرات هذه الأزمات أصلا موجات اللجوء التي أنتجتها أنظمة مستبدة ما كان لها أن تبقى على كرسي الحكم لولا رغبة أصحاب القرار الدولي بذلك، من دون أن نلقي بكامل التبعية عليهم، فالجميع محليا ودوليا شركاء، وربما على عاتقنا، أقصد السوريين كنموذج لحالة اللجوء، المسؤولية الأكبر.
بلغت الأزمة ذروتها بجريمة قتل المدرس الفرنسي، على يد شاب شيشاني لاجئ، وهي جريمة كاملة الأركان، لا يتحمل المسلمون وزرها، جريمة مدانة شأنها شأن جريمة المسجدين في نيوزيلندا شأن كل الجرائم التي يرتكبها المتحدثون باسم الله.
فعل السخرية من معتقدات الآخرين هو الآخر مدان وفق قناعات كثيرة، انطلاقا من أن حريتك تبدأ عندما تنتهي حرية الآخرين، إلا أن هذا الأمر ووفق الأنظمة المتبعة في فرنسا، لا يخضع لسلطة القانون، ولا يمكن تحجيمه بمرسوم رئاسي فهو من أسس الدولة، سواء اتفقنا معها أم لم نتفق.
وهنا يقفز السؤال الأهم، ما الذي يجب على المسلمين الفرنسيين فعله؟ هل يدخلون في دوامة عنف مع شركائهم، وينقلون تجارب عنيفة ارتكبها حمقى، أو عملاء، أو جهلة، ودفع آلاف الأبرياء ثمنها؟.. بالطبع لا، فهذا هو البله بعينه، ولا يخلق سوى المزيد من العداوات للإسلام الذي يدافعون عنه، فأكبر بلاد المسلمين، أندونيسيا وماليزيا، وربما غيرها دخلها الإسلام بأخلاق التجار ولم يدخلها عن طريق "الذبح" الذي بات هدية تقدم للرؤوس الحامية من أصحاب الفكر اليميني المتطرف، فالآخر، لاسيما إن كان من الساسة، لن يكون ملاكا، ولن يدير خده الآخر لتضربه مرة أخرى، بل له حساباته ومصالحه السياسية التي يشترك، ويشتبك في سبيلها حتى مع أبناء دينه.
لا يملك المسلمون الفرنسيون، أو المسلمون في فرنسا إلا الدخول في القنوات التي تجيزها الأنظمة، حتى لو لم تأت أؤكلها بسرعة، فهم، أي المسلمون، يتبعون دولة وطنية بالمفهوم المعاصر، ولا يتبعون لـ"أمة"، وأي طرح من الطروحات العابرة للحدود هو مجرد وهم لن يدفع ثمنه سوى المسلمين أنفسهم قبل غيرهم.
*من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية