كان الفتى محمد يحلم بدراجة نارية كمعظم رفاقه في المدرسة، وقد تشجع بعد حصوله على الشهادة الإعدادية فطلبَ من أبيه تحقيقَ حلمه الصغير هذا.
عانى الأبُ صراعاً مريراً قبل أن يتخذ القرارَ، فهو من جهة يدرك أنّ هذه الدراجة ستساعدُ في قضاء حوائج العائلة أثناءَ عمله الذي يتطلّب غياباً طويلاً عن البيت، ويشعرُ من جهة أخرى أنّ امتلاك الفتى للدراجة هو أشبه بموعد مع الموت. لانَ أخيراً أمام وعود ابنه باتخاذ الحيطة والحذر في القيادة وأمام حاجة العائلة لوسيلة نقل تتناسب مع دخلها البسيط خاصة أن البلدة ليس فيها حافلاتٌ للنقل الداخلي كما هو الأمر في معظم المناطق الريفية.
لم يشفعِ الترددُ للأب، فقد تعرّضَ محمد ابنه الوحيد لحادثٍ مميت بعد أشهر فقط. حكاياتٌ كثيرة مثل هذه جرت وتجري في أنحاء الريف السوريّ، تتغيرُ فيها أسماء الضحايا وتبقى الأسبابُ واحدة: عدم توفر وسائل النقل الداخلي، كلفة رسم ترخيص الدراجة السنوي المرتفعة نسبياً، ودخل الأسرة المحدود مترافقاً مع الجهل وقلة الوعي اللذين يدفعان لشراء دراجة مهرّبة طمعاً بتوفير بضعة آلاف من الليرات وتحايلاً على شرط الكفاءة والأهلية الذي يتضمن ألايقلَّ عمرُ السائق عن الثمانية عشر عاماً.
قد تكونُ الدراجة النارية هي وسيلة النقل الوحيدة للبعض فلايمكنهم الاستغناء عنها، لكنها كثيراً ماتستعمل بشكل جماعيّ -أي تنقلُ الأبَ والأم و ثلاثة أولاد معاً- فتصبحُ أداة موت جماعية، وكثيراً مايستعملها الفتية للهو والتنافس، حيث يؤدّون عروضاً بهلوانية بها بجرأة وتحدّ سافرين، فيقامرون بأعمارهم خاسرين. هكذا يقدّمُ الأبُ ابنه لقمة سائغة للموت حين يسلّمه دراجة وهولم يبلغ سنّ الرشد، بل ويرضى له أن يقودها دون اللباس الواقي الخاص. بالإضافة إلى ذلك معظم الدراجات مهرّبة وغير مرخصة مما يضعفُ الاقتصاد الوطني. بسبب كل هذه المخالفات تنشط مديرياتُ الشرطة بين حين وآخر لملاحقة الدراجات غير النظامية. ويثيرُ هذا لغطاً كبيراً بين أفراد الطبقة الوسطى والدنيا، ويبعثهم على الحذر والاحتراز فترة مؤقتة ريثما تغمضُ الشرطة عيونها.
بدأت الأسبوع الماضي عملية مصادرة للدراجات غير النظامية شملت معظم المحافظات، وبدل أن تحقق العملية الأمن والسلم زادت الحوادث المرورية، فما يكادُ سائقُ الدراجة يرى دورية الشرطة حتى يفرّ هارباً بدراجته ليصطدم بمركبة أخرى ويلقى حتفه بعد لحظات. يقولُ وزيرُ الداخلية واعياً جسامة المسؤولية: "تجربة ملاحقة الدراجات النارية لم تحقق النتائج المرجوة حيث أدت في كثير من الحالات إلى حدوث حوادث مرورية كثيرة ذهب ضحيتها عشرات الأشخاص". ويرى السيد الوزير أن "معالجة هذه المشكلة مسؤولية جماعية تقع على عاتق العديد من الجهات وعلى رأسها مجالس المحافظات التي تتحمل مسؤولية منع الدراجات النارية". إنّ توفيرَ وسائط نقل داخلية للأرياف ومنع دخول الدراجات المهربة وتخفيض الرسوم السنوية ستساعد في وضعِ حلولٍ جذريّة للمشكلة.
بالإضافة إلى خطرِ الدراجة النارية على أرواح الشباب، فإنها تسلبُ الحياة الريفية أجملَ سماتها: الهدوء والسلام. مَن يعش في الريف السوريّ الآن يعرفُ تماماً معنى هذه العبارة... حيث لايمكن للمرء أن يسيرَ في الطريق ومئات الدراجات النارية تنفلتُ حوله بلا ضوابط... لايمكن له أن يتحدّثَ مع صاحبه بصوتٍ هادئ، فهديرُ الدراجات المتواصلُ يطغى على كلّ شيء ويدفعه للزعيق.
يبقى هناك اعتراض على الكيفية التي تتبعها الشرطة في تنفيذ القرار... فقد فوجئ البعضُ بأنّ الشرطة أخذت دراجاتهم من أمام بيوتهم أو محالهم التجارية دون أن تخبرهم أو تنظمَ ضبوطاً بحقّ المخالفين. قد تكون هذه الطريقة هي البديل الأسلم عن مطاردة الدراجات والتي تسبب حوادث مريرة كما أشار السيد الوزير، لكن البعضَ يتساءلُ: في حالة حجز الدراجات دون ترك إشعارٍ أو كتابة ضبط أليس من الممكن أن يبيع عناصر الشرطة الدراجات لحسابهم الخاص؟ إن هذه الكيفية في تنفيذ القرار والانتقادات التي توجه إليها تكشفُ عن أزمة ثقة بين المواطن والشرطة. هذه العلاقة الأزلية والتي قلّما سادها الوئام تحتاج أيضاً لعلاج أو ترميم. فالقوانين الجيدة تحتاجُ منفذين واعين وبمستوى عالٍ من المسؤولية ليحققوا وظائف القانون وغاياته الأخلاقية والاقتصادية والجمالية وذلك من خلال تنفيذه بشكل لائق.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية