أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الاستعادة الرهيبة للأمكنة... ماهر شرف الدين*

الخراب في مدرسة التحرير في الشدادي وفي مكاتب جريدة النهار في بيروت

الصورة أعلاه: الخراب في مدرسة التحرير في الشدادي وفي مكاتب جريدة النهار في بيروت


أماكن كثيرة تغيب عن عين الإنسان في ترحاله وغربته، وتبقى مطبوعةً بصورتها القديمة في مخيّلته وذاكرته. وحين تتاح له فرصة العودة إليها ثانيةً، لمعاينتها، لا بدَّ أن تراوده أمنيةٌ بأن تكون تلك الأماكن قد بقيت على حالها دون أن يمسَّها أيُّ تغيير.

فبعد أن يعيش الإنسان جزءاً من حياته في مكانٍ ما، يعيش ذلك المكان، بدوره، جزءاً من حياته في ذاكرة ذلك الإنسان.

إنَّ آخر ما يرغب به شخصٌ قد عاد إلى مدرسة الطفولة، أو إلى مسقط الرأس، أو إلى مكان العمل القديم، بعد غيابٍ، أن يرى تلك الأماكن وقد تغيَّرت بشكلٍ يمنع مطابقتها مع صورها المحفوظة في الذاكرة. حتى الشجيرة التي غادر المنزل وهي لـمَّا تزل صغيرةً لا يرغب بأن يراها وقد صارت شجرةً عملاقةً، لأن عاطفته التي سمَّنتها الغربة قد التصقت بالتراب أكثر فأكثر، ولم يعد في مقدورها تسلُّق تلك الشجرة التي كبرت في غيابه.

في سوريا التي غادرتُها قسراً سنة 2002، وفي لبنان الذي غادرتُه قسراً سنة 2008، أماكن كثيرة غابت عن عيني لسنواتٍ طويلةٍ، دون أن تتاح لي أيّ فرصة للعودة إليها ومعاينتها مجدَّداً.

لكنَّ الشرَّ العميم، الذي ضرب سوريا ولبنان معاً، قذفَ تلك الأماكن في وجهي في غفلةٍ من الزمن ومنّي.

مدرستي الثانوية في مدينة الشدَّادي، والتي تحوَّلت صفوفها إلى خرابٍ، تعثَّرتُ بصورتها على صفحة في "فيسبوك".

والمكتب الذي عملتُ فيه، طوال سنوات، في جريدة "النهار"، تعثَّرتُ بصورته أيضاً، وقد تحوَّل إلى خرابٍ بعد الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت.

الصور الجميلة لهذين المكانَيْن، صفّي المدرسي ومكتبي الصحافي، والتي احتفظتُ بها طوال السنوات الماضية في ذاكرتي، تعرَّضتْ للتمزيق والبعثرة فجأةً، بحيث سالت دموعي ممزَّقةً ومبعثرةً أيضاً.

بين تلك المقاعد المحطَّمة أكاد أرى شبحاً لطالب يحمل اسمي ولوني وصفاتي، يحاول تنظيف المكان وترتيبه دون جدوى.

وبين تلك المكاتب المحطَّمة أكاد أرى شبحاً لصحافي يحمل اسمي ولوني وصفاتي، يحاول تنظيف المكان وترتيبه دون جدوى.
لقد غادرتُ تلك الأمكنة إنساناً، وعدتُ إليها شبحاً.

*شاعر وكاتب سوري - من كتاب زمان الوصل
(352)    هل أعجبتك المقالة (345)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي