أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ميسر أبو العوينات... د. محمد الأحمد*

أرشيف

في خمسينيات القرن الفائت، عندما كان (الجولان) معنا، طُلب العسكري (ميسر) إلى الخدمة الإلزامية، وصدف أن جاءت خدمته في الجبهة، وعلى خط التماس الذي تراجع فيما بعد لصالح العدو إلى حد يعجز المرء عن وصفه.

المهم – يا رعاكم الله – كان (ميسر) متحمساً للاشتراك في التحرير، والقيام بدوره (التاريخي)، حيث وزعت على العسكر بواريد كانت تدعى (مكنزمة)، وهي بارودة بطلقة واحدة، اشتهرت في الحرب العالمية (الأولى)!، بينما كان العسكري الإسرائيلي (إنري) المداوم في دشمته، وعلى مسافة خمسمئة متراً من (ميسر) يحمل رشاشاً أوتوماتيكياً.

كانت حماسة صاحبنا كبيرة، وكان لا يرضخ للأوامر القائلة بعدم إطلاق النار، ولا يأبه بالبيضة المسلوقة الصباحية وطاسة الشاي المعدنية أمامه، قبل أن يضع طلقة في بيت النار ويصوب نحو (إنري) ويقول له: ولك هنري (بفرجيك)!! ويضغط على الزناد، مطلقاً عياره الصباحي الوحيد وهو فرح، لأنه يشترك في تحرير فلسطين، أما (إنري) فلقد كان ينزعج من (ميسغ) – حيث يلفظ الراء غيناً – ويصيح به: لك نزعت صباحي !!

في كل يوم كان المشهد يتكرر، طلقة واحدة تنطلق باتجاه العريف الإسرائيلي من العريف السوري، دون أن يصيب الثاني الهدف، بيد أنه كان يصل إلى إزعاج (إنري) الذي يأتي من البيت، وقد حلق ذقنه وبللها بـ (أولد سبايس) وفتح الراديو ليسمع الأغاني الفرنسية الرومانسية باعتباره يهودياً فرنسياً.

و ما إن مر أسبوعان على هذا الحال، حتى ذهب العريف الإسرائيلي منزعجاً إلى قائده المباشر في مكتبه مؤدياً التحية العسكرية، حيث دار الحوار التالي:

-احترامي سيدي

-أهلاً هنري شو الموضوع

-سيدي هاد السوغي ميسر

- قصدك العسكري السوري (أبو عوينات) عرفته؟

- نعم سيدي

- شو حكايته؟

- سيدي كل يوم بيخرب علي صباحي ، بيجي من الصبح بس يعرف إني بالدشمة بيطخ عيار عليي وكل مزاجي بيخرب !

- وشو المطلوب

- سيدي خليني اضربه قذيفة /بي سيفن/ اخلص منه صرعني.

- لك (انري) أنت أهبل؟؟! جايبنلك عسكري على خط التماس أحول وبيحط عوينات وما بيصيبك، هلق إذا قتلته بيجيبولك واحد غيره مفتح !! روح على الدشمة روح.

---

قصة العسكري (ميسر أبو عوينات) مع عدوه القادم من فرنسا إلى فلسطين ليحتلها، تمثل أهم أجزاء قصتنا في التعاطي مع المحتل ومع حالنا، حيث رفع الشعارات الحماسية، وضرب العيارات الطائشة ، التي انتهت في آخر الأمر ، لكي تصبح عيارات قتل الإخوة بعضهم بعضاً !

شعار المقاومة والممانعة بحد ذاته، بهذه الطريقة التي لازالت تظن أن صراعنا مع إسرائيل هو صراع تجنيد الأوطان، وتعبئتها وصرف ثرواتها وطاقات أبنائها، وعسكرة المجتمع بطريقة حمقاء، لا تشبه حتى ما فعلته إسرائيل نفسها ضدنا، وهي المجتمع الذي يتحول فيه المخترع و الطبيب والأستاذ الجامعي والممرضة، والفنان .. يتحولون إلى عسكر بكبسة زر عند استشعار الخطر !! لكنهم لا يتركون أبداً تلك المهمة المدنية الأولى لصنع مجتمع متفوق.

بينما في المقلب الآخر يقوم كل (أبو عوينات) بتنميط المجتمع فاشستياً مع العسكرة لقتل المدنية ومنع التطور والإنتاج .. وهاكم النتيجة ! ...وما هي النتيجة؟ إنها ليست مجرد عيارات طائشة باتجاه المحتل ورفع شعارات التحشيد المؤدلج، من أجل تحرير لن يتحقق، قبل تحرير (البني آدم) ! فالإنسان الحر، هو صانع التحرير وما يتجلى أمامنا أي وظالمنا وقاتلنا ليس سوى (ميسر أبو العوينات) الذي يبقيه المحتل، مكانه حتى لا يأتي آخر (مفتح)!.

*من كتاب "زمان الوصل"
(243)    هل أعجبتك المقالة (220)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي