كم هو صعب الحديث عن الأصدقاء الراحلين خاصة وأنهم يتركون خلفهم صناديق من ذكريات قد يكون من الموجع تذكرها والحديث عنها.
بدأت معرفتي الشخصية بالفنانة مي سكاف قبل الثورة بفترة وجاءت الثورة لتعمق هذه الصلة والأهم أنها كشفت لي الشخصية الحقيقية لمي سكاف تلك المرأة المتمردة على كل قيد تملك توقا لا يحدّ للحرية والانطلاق.
ذات مرة ذهبنا سوية إلى منزل أحد أصدقائها وهو طبيب وشاعر جميل كان يملك منزلا في جرمانا، وعمل على تحويل قسم من هذا البيت العريض إلى مسرح ومعرض للوحات الفنية، وأذكر أننا اتفقنا وقتها على استثمار هذا المسرح الصغير للبدء بتحضيرات عمل مسرحي يتحدث عن الثورة وأهدافها وأسبابها وحين خرجنا من منزل الصديق ذهبنا مشيا على الأقدام إلى مطعم قريب يقدم الفلافل والفول واشترينا سندويتش وصرنا نأكل عند باب المحل ونتبادل الحديث والأفكار حول المشروع، فجأة تدخل بيننا امرأة بدينة متوسطة العمر وهمست لمي: (والله وأنت لازمك شنق) شهقت مي بوجه ممتقع وعلت الدهشة وجهها وهمست لي: يبعتلها حمى.
هذه الجملة التي ظلت مي ترددها أمامي حين لمست أني أعشق هذه الجملة من فمها، بطريقتها، بنكهة مي سكاف الخاصة.
كثيرة هي المواقف المشابهة التي تعرضت لها مي وكنت شاهدا عليها وربما أرويها يوما ما باستفاضة وبتفاصيل أدق، لكن ما يهمني هنا لا الحديث عن مضايقات الشبيحة وعناصر الأمن وإنما عن الظلم الذي تعرضت له مي من قبل المؤسسات الرسمية التي تمثل المعارضة تلك المؤسسات بكل أفرادها تجاهلت الوضع المادي المزري الذي وصلت إليه مي خاصة بعد أن حصلت على اللجوء في فرنسا، وكنت حينها وثيق الصلة بها وللحق أقول إنها لم تشكُ يوما من هذا التجاهل، ولم تنوه إليه في حضوري ولكني كنت ألمس العتاب في نظراتها في أزيائها وملابسها القديمة، هذا التجاهل الذي لم يعد غريبا، لم يكن له تأثيره في مواقف مي التي بقيت حتى آخر نفس على ذات الوتيرة من التمرد والتوق للانطلاق والحرية.
سأخبركم في يوم ما عن الظروف المادية والنفسية السيئة التي عاشتها مي ورغم ذلك بقيت هذه المرأة المتمردة على عشقها للحرية وبقيت محافظة على توجهها الصحيح نحو بحثها الدؤوب عن العدالة والمساواة، بقيت مي تسعى في طريق حلمها (والسعي نحو الحلك قد يكون أروع من الحلم ذاته) نحو سوريا حرة للجميع، سوريا لكل السوريين وليست لعائلة واحدة تحتكر البلاد طولا وعرضا وتنتهك تاريخ الشام العظيم وتحرفه وتزوّر أحداثه بما يخدم مخططاتهم في فرض الخنوع والطاعة على شعب انفجر كالنبع المحبوس في قلب صخرة.
كثيرة هي الصفات التي تمتعت بها مي وكثير هو الكلام الذي يمكن أن يقال في ذكراها ولكني شخصيا لم أر في مي إلا الفنانة الحقيقية المتمردة، مي ابنة الأحياء الفقيرة في دمشق، ابنة المسرح ومن ثم استاذة في المسرح عبر مختبرها المسرحي الذي أسسته لتعليم المسرح والفن والحرية أيضا، مي الحرة دعيني أذكرك بجملة كنت ترددينها دوما في حضوري لعلمك بأني أحبها من فمك، أحبها بطريقتك، بنكهة مي سكاف. أتذكرين تلك الجملة: يه !! يبعتلك حمى"؟
وأنا حين ألقاك سأرجوك (كما في كل مرة) أن تقوليها وتعيدينها مرارا وسأرد عليكي قائلا: يبعتلك الحرية ...يبعتلك الخلود.
كاتب سوري - من كتاب زمان الوصل*
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية