قام الإعلام بجولة ثقافية وسياحية مأساوية في مساجد المسلمين، مع فتح آيا صوفيا مرة ثانية، من غير إيجاف ولا خيل ولا ركاب، وعرفنا أسماء مئات المساجد التي طُمست وحُوّلت إلى كنائس في صمت، أو من غير مظاهرات إعلامية، كالتي صاحبت إعادة آيا صوفيا إلى مسجد، إلى حاله الأول، وكان قبل أن يكون معبداً وثنياً أو كنيسةً، أرضا يوحَّد الله فيها، وكانت الأرض كلها مسجداً!
وهكذا عمل الإعلام العربي المسلم "التقي" بنقيض عبارة الإنجيل: لِماذا تَرَى القَشَّةَ فِي عَينِ أخِيكَ لَكِنَّكَ لا تُلاحِظُ الخَشَبَةَ الكَبِيْرَةَ فِي عَينِكَ أنتَ.
عرفنا عشرات المساجد التي هدمت أو حولت إلى حظائر أبقار في أوروبا وفلسطين، بل في مصر نفسها، وتابعنا في الوقت نفسه حسناوات عالميات تُتخذ لهن الصور التذكارية مع الجماد من الأوابد والصخور العملاقة، وصور مع الحيوان، من الخيول في إيحاءات جنسية لا تخفى على الناظر، ونحمد الله أنها خيول وليست حيوانات أخرى، فذكّرتنا الصور بالمطربة التونسية نجلا وحصانها التي تنوي الزواج به، وذلك في مدائن صالح في أرض الحجاز، التي أمر المسلمون إلا يمروا بها إلا باكين!
وكانت الخيول تستعمل للفتوحات والتحرير والفروسية، ثم وجدناها تستعمل للصور التذكارية والخطبة فكأنها أرض خلت من الرجال!
وانضم إلى الجامية والمدخلية، أزهريون قالوا بأن إسطنبول أرض مغصوبة من العدو الصليبي "الشقيق والحبيب"، ولا تجوز الصلاة فيها، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك وأفتوا بأنها لا تقبل، وشيخ سوري، يثابر على الدعوة إلى دين واحد، ليس دين التوحيد، بل الشراكة في الأديان، دين ما تيجوا نحب بعض، تتساوى فيه الآلهة المصطنعة من عجوة ومن حجارة ومن شمع وألوان مع الله، "وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ". فذكرونا بقول مشركي مكة: قالوا يا محمد نعبد إلهك يوماً وتعبد إلهنا يوماً.
لكن أشهر أبطال سحرة الكلام وصنّاع الأحابيل هو التيار الحداثي، أو التيار المتحفي، أو تيار ثمود الذين عقروا الناقة، الذي دعا إلى تحويل المسجد إلى متحف، ويمكن أن نسميه تيار نجلا، وهو تيار يبكي على المتاحف، التي تعاني من قلة عدد في تركيا يا حبة عيني، فلن تنتصر تركيا في معركتها مع التخلف إلا إذا تساوى عدد المتاحف مع عدد المساجد، ويقول هذا التيار إن عدد المتاحف قليل إذا ما قورن بعدد المساجد، وإن الله لا خوف عليه، والخوف هو على التاريخ الذي يجهله أردوغان، ويعرفه محمد بن سلمان وأبوه، ومحمد بن زايد وإخوته، فجعلوا بلادهم متحفاً للديانات الوافدة، مثل ديانة بوذا وديانة هالوين وديانة فالانتين..
والمتحفية هي الفتشية التاريخية، وعبادة الأشياء الساكنة الصلبة. أيقونات شبه مقدسة من غير عبادة. المتحف هو معبد الحداثيين.
ويرى اتباع مذهب نجلا أن التاريخ يُقرأ في المتاحف، ولا يُقرأ في الكتب وأن أردوغان عنده مشكلة في قراءة التاريخ، الذين ينكبُّ عليه ملوك السعودية وأمراء الإمارات درساً وحفظاً واعتباراً، فملوك الإمارات والسعودية هم فقهاء التاريخ، يقضون وقتهم في المتاحف وشراء اللوحات التذكارية للتذكير بعظات التاريخ المجيد!
ويمكن أن نتذكر أن لماكرون متحف من الجماجم، بل إن التاريخ في الشوارع الأوربية معروض للناس، حيث تكثر أصنام تجار العبيد وقطاع الرؤوس، فيتخذ المواطنون منهم العبرة ويتعلمون الدروس الإنسانية في حب السود، والآخرين عموماً بعد استعبادهم. وينسى أن تاريخ تركيا هو تاريخ حروب وبطولات وسيوف، ويظن تيار نجلا التاريخي بين الأوابد أن التركي إذا ما وقف أمام سيف محمد الفاتح سيرى فيه أداة لتقطيع البطيخ وكتَبَ تحت الدرع العثماني: أداة لجمع الورود والباذنجان، أو يصف محمد الفاتح الذي دك أسوار القسطنطينية، بأنه كان عاشقاً لجمع الأصداف البحرية، وهاوياً لتربية الخيول من أجل السباق.
يقرّ تيار نجلا بالسيادة الوطنية، لكن عبادة آثار التاريخ أهم منها، وكإن التاريخ له وجه واحد، إنْ السيادة الوطنية، فسيقع في مشكلة ويصطدم بالسيادة الوطنية العربية في السعودية والإمارات، التي تنتهك الانسان وتهدر حقوقه، وتستأجر السفن في البحر لاعتقال الأحرار، فتركيا هي الأفضل في الحقوق الإنسانية والسياسية في كل المشرق.
لا يُقرأ التاريخ إلا في المتاحف بحسب تيار أصالة التي غنتْ للحب وهي في ذلك تواكب السديس صاحب مقولة مرافئ الحب والسلام. أردوغان شعوبي، بينما الملك سلمان وبن زايد شعبيان، وكان ماكرون رفض الاعتذار عن مجازر بالملايين، ووضع أردوغان الاقتصادي مأزوم حسب خطاب المتحف، وهو رئيس الطائرات المسيّرة والدبابات، وجعل من تركيا العشرة الأوائل اقتصادياً، وإنه فاشل في استحضار داعية خدمة إسرائيل غولن الذي تحميه أمريكا، غولن هو علامة النجاح، وهو فاشل في الجمع بين القومية والدين، بينما يجمع بن سلمان بين هالوين وفالانتين، وأم كلثوم وإبراهيم عليه السلام!
ويرى تيار المتحف أن أردوغان يسعّر حرب الحضارات، التي تسعى السعودية والإمارات إلى سلامها بطبخة المندي وشراء اللوحات وفرق الرياضة ودعوات لمطربات ونجوم طرب إلى الحج والعمرة، وإن أردوغان يستثمر في الكراهية، بينما تستثمر إسرائيل وفرنسا وأمريكا، التي تنوي ضم القدس، في الحب والسلام وأن مخيلة أردوغان إمبراطورية، أما مخيلة بن سلمان وبن زايد فمتحفية، تهوى جمع اللوحات المزيفة وشراء اليخوت وفن البستنة.
تيار نجلا والحصان واليسا وميناج، يطالب أردوغان أن يمضي إلى القدس وحده، أليس فتوّة حي قاسم باشا، فليمض إلى القدس التي يجري التطبيع مع محتليها على قدم وساق!
قد يسخر تيار ثمود من بيع أردوغان البطيخ، أو من لعبه كرة القدم، بينما رؤساء العرب يبيعون الشعوب، وهم كهول، ويلعبون بمصائرها، ويغنون أغاني الحب والسلام لعمر المختار، ويؤدون بصعوبة رقصة العرضة وهي حركتان خفيفتان، ويطالب أرباب المندي باستعادة آثار النبي من تركيا، لتدميرها خوفاً على شعب الجزيرة العربية من وثنية عبادة آثار النبي، الآثار التي يجب أن يعبدوها هي اللوحات المزيفة، وصور فوغ.
الوحيدون الذين لم نرهم في هذه الدبكة، هم المنجّمون حتى يخوفونا من المستقبل، وقد أجمع تيار ثمود أن أيا صوفيا تحفة معمارية ومعجزة هندسة، إعلاء لشأن روما وخفضاً لشأن تركيا، مع أن تركيا هي الوحيدة التي حافظت على الأثر من غير تشويه كما تفعل أوربا بالمساجد، ولو اكتفوا بتحويلها إلى كنائس لكان خيراً، فجعلوها حظائر وأندية قمار وسواها من دور اللهو والإهانة، وأن بلاد العرب أمست متحفاً للعسكر، والكهول من الرؤساء، و سيركا لصبيان الأمراء، ورأينا أقطاب الجامية والحداثية والسلفية، يؤدون رقصة واحدة على لحن الحب والسلام مع إسرائيل ، والعداء للمساجد التي سيذكر فيها اسم الله كثيرا ومعه اسم رسوله عيسى بن مريم الصديقة.
*أحمد عمر - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية