شكّل الخلافُ الأخير في هيئة التفاوض السورية حول كتلة المستقلين انقساماً حادّاً، والذي بات يهدّد بعودة المعارضة السورية إلى نقطة الصفر، وحقيقةً لا يسعنا إلا القول أنّ نقول "المعارضة السورية تمرّ بإحدى أكبر أزماتها منذ تأسيسها في عام 2011".
حيث يعتقد مراقبون أنّ الخلافات الحالية ستشكّل تهديداً حقيقياً لسير العملية السياسية والتفاوضية مع نظام الأسد، ومن الواضح أنّ جميع الأطراف الدولية أصبحت تسعى إلى إنشاء هيئتين تفاوضيتين، هيئة تفاوض تضمّ الائتلاف الوطني والفصائل العسكرية والمستقلين، وهيئة تفاوض أخرى تضمّ هيئة التنسيق الوطنية ومنصتي القاهرة وموسكو.
ويُشار إلى أنّ القرار 2254 الذي يعتبر القاعدة الأساس لعملية التفاوض السورية ينصُّ على أنّ تكون مرجعية المعارضة السورية هي هيئة التفاوض السورية، والتي تضمّ كلَّ أطراف المعارضة السورية بما فيها منصتي القاهرة وموسكو.
وذلك ما يجعل نظام الأسد يشكّك وبشكلٍّ مستمرّ بوفد المعارضة السورية في جنيف وبمرجعيته، حيث إنّه بات يمتنع عن حضور الاجتماعات، إلى حين تشكيل وفد ممثل من جميع الأطراف المعارضة.
يُذكر أنّ هيئة التفاوض كانت قد انبثقت عن مؤتمر الرياض الذي عُقد في العاصمة السعودية في كانون الأول 2015، واتُفق على أنْ تكونَ تشكيلتها من 32 عضواً.
وفي مؤتمر "الرياض 2" الذي عُقد في 22 و23 من تشرين الثاني 2017، اختارت المعارضة السورية أعضاء النسخة الجديدة من الهيئة، وضمّت في المجموع 50 عضواً، واختير "نصر الحريري" رئيساً لها خلفاً لـ "رياض حجاب".
وعندما قبل "نصر الحريري" الابتعاد عن رفقائه في "الرياض1"، والانفراد برئاسة هيئة التفاوض السورية، بدأنا نشعر جميعاً منذ تلك اللحظة بضعف المعارضة، وبأنّ هذا الانقلاب الذي حيك بليل لم يكن لمصلحة الثورة، وما قبول "نصر الحريري" به سوى لأنّ الأطراف الدولية درست طبيعة هذا الشخص، ووقع اختيارها عليه دون غيره، بعد أنْ عرفت ميوله وحبه للسلطة والمناصب، ومن ثم فإنّ ذلك يسهّل من عملية ثنيه أو حتى تجاهله بالكامل، وهو ما ظهر مباشرة بعد الانتهاء من مؤتمر سوتشي.
وخلال الأيام الماضية تناقل البعض رسالة من "نصر الحريري" رئيس هيئة التفاوض السورية السابق الذي انتهت ولايته الثانية ولا يحق له الترشح لولاية ثالثة لأن ذلك مخالف للقانون الداخلي للهيئة، حيث يعربُ خلالها عن امتعاضه من المملكة العربية السعودية التي أرسلت رسالة لبعض أعضاء الهيئة، تدعوهم فيها للاجتماع إلكترونياً لاختيارِ رئيس جديد للهيئة، الأمر الذي دفع "نصر الحريري" إلى الإدلاء برسالة طويلة يحذّر فيها من شقِّ صفٍّ الهيئة، وذلك بعد الحديث عن أنّه لن يكونَ له دورٌ في التشكيلة الجديدة بهيئة التفاوض.
خلاصة رسالة "الحريري" الطويلة عبارات تحذيرية شديدة من الاجتماع الجديد، لكونِه سيجعل المعارضةَ السورية تبدو مرتهنة للخارج، وأنّ قرارها ليس بيدها، وكأنّ "الحريري" جاء إلى رئاسة الهيئة بعد أنّ انتخبه جمهورُ الثورة السورية، متجاهلاً أنْ رئاسته للهيئة جاءت بعد انقلاب على رئيسها السابق الدكتور "رياض حجاب"، من خلال مؤتمر “الرياض 2” الذي عقدته السعودية في تشرين الثاني عام 2017، وجلبت "نصر الحريري" ليكون الرئيس الجديد.
تحذيرات "الحريري" أشبه بمن يقول "أنا ومن بعدي الطوفان"، فهو يحاول أنْ يقول في حال تمّ إبعادي عن رئاسة الهيئة؛ فإنّ مصيرها التفكّك والانتهاء، وإعطاء صورة للعالم بأنّنا مرتهنون للخارج، وكأنّ "الحريري" يوجّه خطابه إلى جمهورٍ من عالم آخر، في صورة تكشف انسلاخه عن الواقع.
إذ لم يعدْ يخفى على السوريين بمختلف ولاءاتهم أنّ هناك أسهماً دولية في هيئة التفاوض، من خلال أشخاص يتبعون أجندات معيّنة لهذه الدولة وغيرها، وليس سراً أنْ يكون هناك ممثلين عن السعودية وآخرين عن تركيا وغيرها.
ولعل هذا ما جعل هيئة التفاوض بعيدة كلَّ البعد عن طموحات السوريين، الذين خرجوا بثورة الكرامة ضدّ نظام ينفّذ مثل تلك الأجندات لمصلحة دول أخرى في سبيل بقائه برأس الحكم، وهنا يطرح سؤال مهم نفسه لماذا لم يوجّه "الحريري" هذه التحذيرات إلاّ اليوم؟، مع العلم بأنّه جاء بدعوة سعودية سابقة إلى رئاسة الهيئة، إنْ كان فعلاً حريصاً على أنْ يكون قرار المعارضة السورية بيدها، لِمَ استمر سكوتُه أكثر من 3 سنوات ولم نسمع صوته، إلا بعدَ إزاحتِه عن رئاسة الهيئة؟.
حقيقة لم نُفاجأ كثيراً برسالة "الحريري"، ولا سيما مع ماضيه الذي حاول فيه كسبَ أيِّ مقعدٍ في جسم المعارضة السورية، فهو عمل مع الأردن ثم انتقل للعيش في تركيا وعمل أخيراً مع السعودية، ولم يجدْ حرجاً أنْ يلتقطَ صورة تذكارية مع ابتسامة مذلّة إلى جانب هيئة التفاوض مع وزير خارجية روسيا "سيرغي لافروف" عام 2018، وذلك في الوقت الذي كانت تنشر روسيا فيه الدمار والمجازر بحقِّ السوريين في إدلب وحلب والغوطة وغيرها، وكأنّ من في الصورة لا يعنيهم الأمر من قريب أو بعيد، أو أنهم مبعوثون أمميون على الحياد أُرسلوا إلى روسيا لمفاوضة "لافروف".
لم يكن هذا الرجل يمثل يوماً ثورة الكرامة التي نكزته اليوم، واستفاقت فجأة بعدَ غياب هي وضميره لسنوات!، يحقّ لنا أنْ نتعجب وننتقد أداءه الباهت جداً في هذه الكيانات الهلامية، بل ونغضب منه إذ أنّه لم يغضب لشيء، إلا لحظوظ نفسه فقط عندما شعر أنّه خسر رئاسة الهيئة.
لقد عوّدنا "نصر الحريري" الذي تصدّر واجهة المعارضة السورية في أحلك فتراتها، والذي ادعى تمثيل الثورة، أن يسجل موقف ثوري في النصف الساعة الأخيرة، وكان قد جاء ذلك بعد أنْ كانت مدته انتهت، وشعر أنّه سيتمُّ استبداله، ولا نستبعد أبداً أنْ يكون هو من سرّبَ أصلاً رسالته هذه للإعلام، في محاولة منه لتلميع صورته في الشارع الثوري، الذي بات يحمّل أمثال "نصر الحريري" المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع مؤخّراً.
ولعل "نصر الحريري" نسي حينما طردَه ثوارُ مدينة الباب مع وفدِه خلال زيارتهم المدينة في تموز عام 2018، وذلك كان كفيلاً بأنْ يعطي نظرة الشارع السوري بشكل عام إلى هيئات المعارضة في الخارج، فهل يفهم ائتلاف قوى الثورة والمعارضة هذه الرسالة، ولا يكرر أخطاء أسلافه أم أن لعنة "الحريري" ستغرق مركب الائتلاف، كما أغرقت غيره، أي أنّ رسالة الساعات الأخيرة لـ "الحريري" قبل إزاحته، لا تنفع لتقول بأنّ الحسَّ الثوري لديه قد استفاقَ فجأة، بعدما كان في سبات عميق خلال تولّيه الرئاسة!.
*محمود المحمد - كاتب سوري - مساهمة لزمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية