أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

هل يمكن أن يكون مجلس العملة حلا لمشكلة تدهور قيمة الليرة السورية؟

أرشيف

لاشك أن الوضعين السياسي والاقتصادي في سوريا لا يمكن فصلهما عن بعضهما، وتعقيدات الوضع السياسي تجعل من الصعب جدا تصور حلول اقتصادية بدون حلول سياسية للوضع، بالإضافة لذلك فإن الوضع الاقتصادي أيضا متشعب ومتعدد الأبعاد ومعقد ويحتاج لبرنامج كامل من الإصلاح الاقتصادي على المستوى الكلي والجزئي.

في هذا الإطار فإن طرح حلول جزئية لمعالجة الوضع النقدي قد تبدو نوعا من الرياضة الفكرية النظرية، نظرا لأن الوضع النقدي لا ينفصل عن مجمل الوضع الاقتصادي والسياسي المعقد. فما حصل للنقد السوري هو حصيلة فترة طويلة من التدهور السياسي والاقتصادي للبلد والحلول النقدية لن تكون قابلة للتطبيق أو مجدية بدون اشتراطات اقتصادية وسياسية عامة. لكن إلقاء الضوء على جانب بعينة وتصور جزء من الحل قد يثير الاهتمام والنقاش من قبل الآخرين، وقد يساعد على بلورة حلول لمجمل الوضع على أساس مشاركة مختلف المعنيين ومن مختلف الاختصاصات.

في المنظور النقدي المشكلة الحالية في سوريا هي تدهور قيمة العملة داخليا من خلال التضخم المتسارع وخارجيا من خلال تدهور سعر صرف الليرة.

كيف يمكن أن يتم استعادة الاستقرار إلى الليرة، أي كيف يمكن كبح التضخم وضبط سعر صرف الليرة أي بالمجمل تحقيق استقرار الأسعار؟
تقوم السياسة النقدية بشكل عام إلى جانب سياسة سعر الصرف بوظيفة ضبط قيمة العملة والحفاظ على استقرار الأسعار.

يتم ذلك من خلال اتباع استراتيجيات سياسة نقدية تبين بشكل واضح نوعا ما لمجمل الفعاليات الاقتصاد اتجاهات السياسة النقدية فيما يتعلق بالأسعار وتقلباتها.

قد تستهدف السياسة النقدية أرقاما محددة من الكليات النقدية (كميات النقود في الاقتصاد) تبين مقدار التطور في كمية النقود الذي تلتزم به السلطة النقدية ومن ثم اتجاهات التضخم أو الاستقرار في الاقتصاد.

وقد تستهدف معدلا محدد من التضخم، من خلال ما يسمى باستراتيجية التضخم المستهدف، يبين أيضا اتجاهات التضخم والاستقرار المستقبلية.

وتستهدف سياسة سعر الصرف بيان كيفية ضبط القيمة الخارجية للعملة، من خلال اختيار نظام معين لسعر الصرف ما بين التعويم (أي ترك تحديد سعر الصرف للسوق والعرض والطلب) أو الربط مع عملة محددة بحيث يتحرك سعر الصرف مع عملة الربط بتعهد السلطة النقدية بالحفاظ على سعر الربط، وعند حدوث الخلل تتدخل السلطة النقدية (البنك المركزي) في السوق مشتريا أو بائعا لإعادة سعر السوق إلى سعر الربط.
وفي بعض الأحيان تكون استراتيجية السياسة النقدية بالمجمل هي استهداف سعر صرف محدد.

الغاية من استراتيجيات السياسة النقدية (والصرف) المعلنة هي ضبط توقعات الناس حول السلوك النقدي للحكومة. أي تهدئة التوقعات التضخمية للناس. وذلك ناتج عنه أنه بغياب استراتيجية ذات مصداقية للسياسة النقدية يتوقع الناس بشكل عام أن تحاول الدولة التلاعب بالمتغيرات النقدية، مثل طبع العملة من أجل تمويل عجز الموازنة الحكومية الناتج عن سياسات مالية توسعية تهدف لتحريك الاقتصاد من الركود أو كسب أصوات الناخبين بتقديم مزايا إنفاقيه لهم، ومن ثم التسبب بالتضخم وتقلب سعر الصرف.

وبوجود التوقعات التضخمية للناس (نظرية التوقعات العقلانية) لا يمكن السيطرة على التضخم أو الحفاظ على سعر الصرف لأن كل الفعاليات الاقتصادية ستحاول أن ترفع أسعارها بشكل مستمر خوفا من التضخم المستقبلي الذي يمكن أن تسببه الدولة ويتوقع المضاربون بشكل مستمر التقلب في سعر الصرف ومن ثم لا يكفون عن الهجوم على العملة المعنية والمضاربة عليها, وينتج عن هذا دائرة خبيثة من التوقعات التي تغذي نفسها والسلوك غير المنضبط للسلطة النقدية تنتج حالة من السيكولوجيا التضخم يصعب السيطرة عليها إلا بإجراءات اقتصادية حاسمة ومؤلمة للناس.

مصداقية التزام السلطة النقدية بالاستراتيجية المعلنة هي أساس فعاليتها في الحفاظ على الاستقرار النقدي ومن ثم السعري. في كل استراتيجيات السياسة النقدية المتبعة، سواء كانت استهداف معدل تضخم محدد أو كمية محددة من النقود في الاقتصاد أو سعر صرف محدد، هناك هامش كبير للسلطة النقدية للتلاعب بالأسعار لغايات اقتصادية أو سياسية.

وذلك ناتج عن أن البنك المركزي يظل يمتلك هامشا كبيرا من المناورة بحيث يستطيع أن يتلاعب بكمية النقود أو سعر الصرف أو مستوى الأسعار بما لا يتوافق مع الأهداف الاستراتيجية التي تم الإعلان عنها، وبالتالي يفاجئ الفعاليات الاقتصادية، وهي الحالة التي تسمى عدم التناسق الزمني في السياسة النقدية (أي الاعلان عن شيء وفعل غيره).

عادة ما يطرح مجلس العملة كحل في مواجهة وجود مشكلة مزمنة من ضعف المصداقية السياسة النقدية والتضخم المنفلت في بلد ما بغرض استعادة المصداقية والسيطرة على التضخم وكسر سيكولوجية التوقعات التضخمية.

فما هو مجلس العملة؟
مجلس العملة هو ترتيب نقدي بموجبه يتم تغيير قانون البنك المركزي وتحويله من وظيفة البنك المركزي إلى مجلس عملة. ضمن الترتيب الجديد يقوم البنك المركزي بتغطية كامل اصدار العملة المحلية بعملة أجنبية قوية، تسمى العملة المرساة أو المرجع.

ويلتزم البنك المركزي والبنوك التجارية بتحويل العملة المحلية إلى العملة الأجنبية لكل شخص وعند الطلب. أي أن السياسة النقدية تشبه حالة الطيار الآلي مرتبطة بتدفقات العملة الأجنبية.

يحقق مجلس العملة مزايا مهمة مقارنة باستراتيجية السياسة النقدية الأخرى.  أولاً ، يمكن أن يتوسع العرض النقدي فقط عندما يتم تبادل العملات الأجنبية بالعملة المحلية في البنك المركزي. لذلك ، يقابل الزيادة في قيمة العملة المحلية زيادة مساوية في احتياطيات النقد الأجنبي.
ومن ثم لم يعد لدى البنك المركزي القدرة على طباعة النقود بحرية تسبب التضخم.

ثانيًا، يتضمن مجلس العملة، بموجب القانون، التزامًا أقوى من البنك المركزي العادي بسعر الصرف الثابت، وبالتالي قد يكون فعالًا في خفض التضخم بسرعة وفي تقليل احتمالية هجوم المضاربة الناجح ضد العملة. لكن في المجلس بعض العيوب مثل فقدان السياسة النقدية المستقلة وزيادة تعرض الاقتصاد للصدمات الاقتصادية القادمة من دولة العملة المرجع.  بالإضافة إلى ذلك، إذا حدث هجوم مضاربة فإن تبادل العملة المحلية بالعملة الأجنبية يؤدي إلى تقلص حاد في المعروض النقدي المحلي، وهو أمر يمكن أن يكون ضارًا للغاية بالاقتصاد لأنه يسبب الانكماش الاقتصادي.

فكرة مجلس العملة  تاريخيا تعود إلى انكلترا التي أسست مجالس عملة لمستعمراتها. لكن حديثا تم إنشاء مجالس العملة في هونغ كونغ (1983) والأرجنتين (1991) وإستونيا (1992) وليتوانيا (1994) وبلغاريا (1997) والبوسنة (1998). وفي جميع الحالات أثبت فعالية كبيرة وسريعة في السيطرة على التضخم بحيث ظهرت النتائج خلال سنة، رغم أنه في بعض الحالات تم التخلي عن المجلس لاحقا (الأرجنتين).

هل يمكن أن يكون مثل هذا الترتيب حلا للوضع الحالي للعملة السورية؟ أعتقد أن الإجابة المبدئية هي نعم. نظرا لأن المصداقية النقدية هي في الحضيض بالنسبة لالتزام البنك المركزي بأي استراتيجية سياسة نقدية معلنة، وكذلك من الواضح تشكل لولب وسيكولوجيا تضخمية يصعب السيطرة عليهما بدون إجراء غير اعتيادي وصارم.

هل يمكن تنفيذ هذا الترتيب تقنيا؟ بدون الدخول في كامل التفاصيل لكن في الخطوط العريضة الإجابة هي نعم.

وهناك ثلاثة شروط أساسية يمكن تلبيتها: قانوني وزمني نقدي. بالنسبة للشرط القانوني يتطلب الأمر تغيير قانون البنك المركزي بحيث يتحول إلى مجلس عملة ملتزم بتغطية العملة تماما بالاحتياطي الأجنبي وعدم الإصدار بدون تغطية كاملة، ويحظر عليه إقراض الحكومة.

بالنسبة للشرط الزمني فإنه يجب ترك العملة السورية تتحرك بكامل الحرية لمدة شهر لكي تستقر على سعر صرف معين يمكن تثبيته. أما بالنسبة للشرط النقدي فإن الأمر يتطلب توفر تغطية كافية من السيولة والأدوات المالية الصادرة بالعملة الأجنبية.

ومن ثم يكون السؤال كم نحتاج من العملة الأجنبية (دولار أو يورو)، من سيولة نقدية وسندات وغيرها من الأدوات؟

باعتبار أن التغطية المطلوبة هي فقط للنقود الأساس أي العملة الصادرة عن البنك المركزي (المتداولة بين أيدي الناس والموجودة في خزائن البنك المركزي والبنوك التجارية كاحتياطيات) فإنه يجب معرفة كمية النقود الأساس من الليرة السورية. لا يوجد إحصاءات نقدية للسنوات الحالية في سورية.

لكن حسب الإحصاءات الرسمية للحكومة السورية لعام 2010 كانت كمية النقود الأساس تقريبا 663 مليار ليرة. ونظرا لأن هناك تقديرات بأنها تضاعفت ثلاث مرات يمكن أن نقدر أنها بلغت حوالي 1989 مليار.

وإذا افترضنا أنه بعد شهر من حرية الحركة استقرت الليرة عند 2500 ليرة للدولار فإن البنك المركزي (مجلس العملة) سيحتاج لاحتياطيات تقدر بـ800 مليون دولار لتغطية مجلس العملة. وبعدها مع زيادة دولار واحد من الاحتياطيات يمكن زيادة النقود الأساس بمقدار 2500 ليرة سورية وتراجع الاحتياطيات بدولار سيرتب سحب 2500 ليرة سورية من التداول.

هل يمكن للبنك المركزي السوري تأمين مثل هذا المبلغ الجواب هو نعم على الاقل يمكنه توقيع اتفاقيات منع صندوق النقد الدولي تساعده على تأمين هذا المبلغ. ومن المهم أن نشير أنه من الأفضل لسوريا أن تكون العملة المرجع هي اليورو لان العلاقات الاقتصادية لسوريا هي أقوى مع أوروبا بالمقارنة مع الولايات المتحدة.

هل يمكن أن يقبل النظام في سوريا تطبيق مثل هذه الاستراتيجية، السلوك السابق للنظام يقول إنه من الصعب أن يقبل التخلي عن التلاعب بالعملة والحصول على مصدر سهل لتمويل نفقاته والتلاعب بعملية توزيع الثروة من خلالها. إن طرح الحلول لا يعني بالضرورة وجود إرادة سياسية بتطبيقها، لكن ذلك يبين أن هناك حلولا إن وجدت إرادة الحل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى طرح الحلول يفتحها للنقاش والتطوير والإنضاج والتغيير عسى أن تتبلور يوما ما إرادة للحل وعند ذلك تكون هناك بعض الحلول الناضجة التي يمكن الأخذ بها.
مراجع:
- المجموعة الإحصائية السورية لعام 2019
- Frederic S. Mishkin, (2016),  Money, Banking, and Financial Markets, 11thed, Pearson Education Limited, England.
- Stephen G. Cecchetti and  Kermit L. Schoenholtz, (2017), Money, Banking, and Financial Markets, 5th ed, McGraw-Hill Education, New York.

الدكتور مسلم عبد طالاس- كلية الاقتصاد – جامعة ماردين
(238)    هل أعجبتك المقالة (183)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي