مأزق صور "قيصر"... ماهر شرف الدين*
إضافةً إلى الألم غير الموصوف الذي سبَّبه نشرُ صور "قيصر" الرهيبة لعموم السوريين، ثمَّة ألمٌ غير موصوف أيضاً طاولَ أهالي الضحايا الذين نُشرت صور أبنائهم.
فقد استتبع نشرُ تلك الصور أخباراً متفرّقة عن آباء أُصيبوا بذبحاتٍ قلبيةٍ بعدما تعرَّفوا على صور أبنائهم، وعن أمَّهات فقدنَ عقولهنَّ غير مصدّقات بأنَّ فلذة الكبد يمكن أن يكون هيكلاً عظمياً مفقوء العينَيْن ومحطَّم الأسنان، وعن أخواتٍ عاندنَ الحقيقة الدامغة بآمالٍ خادعةٍ حِيكَتْ بصنانير الانتظار واليأس.
بطبيعة الحال، أدَّى ذلك كلّه إلى سجالٍ سوريّ، حسَّاس جداً، حول "أخلاقية" المساهمة بنشر تلك الصور من دون احترام مشاعر أهالي الضحايا.
لكنَّ مثل هذا الطرح –على وجاهته- أغفل نقاشاً لا يقلّ أهمّيةً حول "أخلاقية" عدم المساهمة بنشر الصور انتصافاً للضحايا أنفسهم ونقلاً لحجم مأساتهم إلى العالم أجمع، وكذلك التشهير بقاتليهم والمساهمة في تحريض الرأي العام للضغط على صنَّاع القرار الدولي للتسريع بمحاكمة جميع المشتركين في تنفيذ كبرى جرائم القرن الحادي والعشرين.
لقد وضعتنا -بالأحرى سَجَنتنا- صورُ "قيصر" بين خيارَيْن صعبَيْن غير إنسانيَّيْن قال فيهما شاعرٌ عربيٌّ قديمٌ بأنَّ "أحلاهما مُرٌّ".
فثمَّة حقوق للضحايا، وثمَّة حقٌّ لأهل الضحايا.
ثمَّة واجبٌ يستدعي نشرَ الصور كرمى لتضحيات المعتقلين، وثمَّة واجبٌ يستدعي عدمَ نشر الصور كرمى لمشاعر أهل المعتقلين.
ثمَّة أخلاقية تدفع باتجاه، وثمَّة أخلاقية نقيضة تدفع بما هو عكس ذلك الاتجاه.
إنَّ صور "قيصر" ليست وثيقة تاريخية على إبادة جماعية حصلت فحسب، بل هي أيضاً وثيقة تاريخية على إمكان تحويل الدفاع عن الحقّ –ضمن السجال العام- إلى "عمل غير أخلاقي".
يحتار سوريو النكبة اليوم، مع انتشار آلاف الصور من ملفّ "قيصر"، كيف يُجيبون عن السؤال الآتي: أيُّ الأخلاقيتَيْن أكثر أخلاقية؟ ليختاروا إحداهما ويعملوا وفقها.
إنَّ الجواب –ومهما يكن- لن يكون أقلَّ قسوةً من السؤال ذاته.
وهكذا فإنَّ التشوُّهات (بفعل التعذيب الجسدي) التي تنقلها صور "قيصر"، سرعان ما ستغادر تلك الصور لتتحوَّل إلى تشوُّهات جديدة (بفعل التعذيب النفسي) لسوريين يموتون قهراً وراء الشاشات، من دون أن يُتاح لـ"قيصر" جديد تصوير وجوههم.
*شاعر وكاتب سوري - من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية